لا تعتبر سورية اليوم بيئةً مناسبة لنمو قطاع الأعمال الذي تعرض على مدى السنوات الماضية إلى دمار واسع. بل إن البلاد التي مزقتها الحرب، احتلت، وللعام الثاني على التوالي، أسوأ المراكز في قائمة مؤشر الاضطرابات الأهلية الذي يحلّل مخاطر الاضطرابات على أعمال الشركات في 197 دولة، والصادر عن شركة "مابلكروفت" لتحليل المخاطر. ورغم أن تقارير كثيرة تؤكّد تقلّص النشاط الاقتصادي في جميع القطاعات والمناطق السورية، واضطرار شركات كثيرة إلى إغلاق أبوابها، لا تزال شركات ومؤسسات اقتصادية كثيرة تمارس نشاطها في سورية.
بيئة خطرة
ومع استمرار الحرب، تبدو العقبات التي تواجه الشركات العاملة في سورية غير محدودة، بدءاً من ارتفاع تكاليف الحماية الأمنية من المخاطر، مروراً بتدنّي الإنتاجية العامة بسبب ظروف العاملين والبُنى التحتية في البلاد، وصولاً إلى صعوبة تأمين المواد الأولية، سواء عبر السوق الداخلي الذي بات مقطع الأوصال أو عبر الاستيراد من الخارج.
يشير نائب رئيس مجلس إدارة المنتدى الاقتصادي السوري تمام البارودي إلى حدوث تغيّرات كبيرة داخل قطاع الأعمال، إذ فرضت "الظروف الحالية واقعاً جديداً على التجار والصناعيين". ويقول لـ "العربي الجديد": "لم نعد نشهد أي نشاط صناعي ضمن المناطق الصناعية، كونها تقع في الغالب خارج المدن الرئيسية، وقد تحوّل جزء منها إلى داخل المدن على شكل ورشات ومعامل صغيرة. كما باتت كافة النشاطات التجارية والصناعية مرهونة بالواقع المعيشي في سورية. بمعنى آخر، يجري توجيه كل ما يتم إنتاجه إلى الاستهلاك المحلي وعلى النطاق الضيق".
ويؤكد البارودي أن المؤسسات الكبيرة هي الأكثر تضرراً، كونها تعتمد على استيراد المواد الأولية من خارج سورية أو من خارج المحافظة، كذلك تعتمد تلك الصناعات بصورة كبيرة على اليد العاملة، وهو أمر لم يعد ممكناً توفره في ظل الحرب في سورية، فالتنقل والوصول إلى المصانع الكبيرة بات أمراً شبه مستحيل".
يؤكد التقرير الأخير لمنظمة "الأسكوا" ما ذهب إليه البارودي، إذ يشير إلى تأثر الصناعة التحويلية الكبيرة وعلى نطاق واسع جداً بالحرب المندلعة في سورية، ما أدى إلى انتقال المئات من المنشآت الصناعية إلى بلدان مجاورة. كذلك يشير التقرير إلى أن "تدهور أسعار الصرف الاسمي لليرة السورية مقابل العملات الأجنبية، وانتشار تهريب هذه العملات والتجارة بها في السوق السوداء، أدى إلى ارتفاع حاد في أسعار السلع المستوردة".
مؤسسات ناشئة
لم تقتصر الخسائر والصعوبات على قطاع الصناعات الكبيرة، إذ تضررت المنشآت الصغيرة في حلب وفي ريف دمشق بصورة كبيرة، وقد أفلست آلاف من تلك المنشآت، بحسب الباحث الاقتصادي معن الراعي الذي يؤكد لـ "العربي الجديد" أن "حجم التحديات التي واجهتها عشرات آلاف المنشآت الصغيرة كان أكبر من طاقتها، وهو ما أدى إلى إفلاسها". ويضيف الراعي: "بقيت المنشآت المتوسطة الحجم والكبيرة القادرة على المنافسة والصمود في سوق مضطرب، وذلك بعد أن نقلت منشآتها إلى المدن الآمنة نسبياً التي يسيطر عليها النظام السوري، فيما انتقل بعضهم إلى مدينة عدرا الصناعية في ريف دمشق بعد أن شهد الريف دماراً واسعاً وبات العمل فيه مستحيلاً".
ويرجح الراعي أن يكون "النقص في المعروض السلعي والخدمي بسبب هجرة الشركات أو دمارها أو تراجع إنتاجيتها أعلى من تراجع الطلب الذي حصل أيضاً بعد نزوح السكان واستنزاف قدراتهم الشرائية". وقد تم سدّ تلك الفجوة بحسب الراعي عبر تأسيس شركات جديدة تتبع في معظم الحالات إلى أفراد موالين للنظام، كانوا يديرون أعمالاً متواضعة من قبل، واستفادوا من الحرب ليطوروا تلك الأعمال". وبالفعل شهدت العاصمة دمشق والمنطقة الساحلية تأسيس الكثير من الشركات الجديدة خلال العامين الماضيين، وعملت بصورة رئيسية في قطاعات النقل والتجارة والخدمات. ولكن، ماذا عن تأسيس شركات إنتاجية؟ يشير الراعي إلى أن تلك الشركات الناشئة كانت "تتجنّب العمل في قطاعات الإنتاج السلعي، وذلك لاعتماد تلك القطاعات بشكل كبير على السلع المستوردة المرتفعة التكلفة، والتي تعترضها عقبات كثيرة؛ كالعقوبات الاقتصادية ومخاطر النقل".
من جهة أخرى، يلحظ تمام البارودي "ظهور طبقة جديدة من التجار والصناعيين، نشأت في ظلّ الصراع الداخلي في سورية، مستفيدة من الأجواء السلبية". ويعتبر البارودي ظهورها بمثابة "الخطر الأكبر اليوم على قطاع الأعمال داخل سورية". ويضيف: "لم يعد بوسع رجل الأعمال أو الصناعيين والتجار ممارسة نشاطاتهم السابقة في ظل الظروف الحالية، إذ استغلت الفئة الجديدة التي ظهرت هذه الظروف، ووجدت الفرصة مناسبةً لكي تهيمن وتمارس نشاطاً تجارياً أو صناعياً أو خدمياً، مستغلة قوة السلاح من جهة أو السلطة التي تحميها من جهة أخرى"، مشيراً إلى أن "ذلك ينطبق أيضاً على المناطق الخاضعة لسيطرة النظام السوري والمناطق التابعة للفصائل المتناحرة الأخرى".
إقرأ أيضاً: قطر: توظيف الفوائض المالية لخدمة الاقتصاد الرقمي