سورية: الانسحاب من الدخانية نموذجاً لحرب يسدد فواتيرها الفقراء

09 أكتوبر 2014
المعارضة المسلحة لم تبرر انسحاباتها (بولينت كيليك/فرانس برس)
+ الخط -
انسحبت فصائل المعارضة المسلّحة من حي الدخانية، على الطرف الشرقي للعاصمة دمشق، يوم الاثنين، وهو الانسحاب الثاني خلال أسبوع، بعد الانسحاب من عدرا العمالية وعدرا البلد، والثالث خلال أقل من شهرين، بعد سيطرة قوات النظام على بلدة المليحة، عقب معركة امتدت لـ 135 يوماً.

واللافت أن فصائل المعارضة ذات الفعالية، كما "جيش الإسلام" و"جيش الأمة"، لم تقدم أي تفسير للانسحاب من الدخانية، بل إن تصريحاتهم السابقة، كانت تتحدث عن أهداف تتوزع بين القضاء على "الشبيحة"، وتهديد مقرّاتهم داخل جرمانا، وتخفيف الضغط عن جبهة جوبر، والتهديد بقطع طريق المطار وضرب فرع "فلسطين" والدوريات، اللذين يبعدان كيلومتراً واحداً عن الحي.

وبرّر أحد أبرز فصائل المعارضة المسلّحة، الانسحاب من "عدرا العمالية" قبل نحو أسبوعين، بتراجع أهميتها العسكرية، لصالح تركيز قواتهم على جبهة الدخانية، وإعطائها الأولوية كونها الأقرب إلى دمشق. ولفت إلى أن "الجهد العسكري يتركز على هذه المنطقة، لتحقيق اختراق يهدد العاصمة دمشق".

لا شكّ أن دخول الحي في عملية خاطفة، فاجأت النظام، في مكان لا يتوقعه، فالدخانية موقع هام للعبور، بين دمشق والغوطة الشرقية، وللاتصال بين الغوطتين الشرقية والغربية، ولتهديد طريق المطار على بعد مئات الأمتار، ولتهديد مدينة جرمانا التي يعتبرها النظام إحدى قلاعه، ومنطلقاً لعملياته على البلدات المجاورة.

غير أنّ قوات النظام لم تقف مكتوفة الأيدي، فالتسليم بسقوط الدخانية، يعني الرضوخ للمخاطر المتوقعة، لهذا سخّرت كل ما تملك من نيران لقصفه، وتحويله إلى ركام، بينما فرّ سكانه بثيابهم منذ اللحظات الأولى للاشتباكات، من لم يتمكن منهم فتحت له الفصائل المهاجمة معبراً للدخول إلى بلدات الغوطة المحاصرة.

وكشف أحد الفصائل المشاركة أن قوات النظام استخدمت الغازات السامة 7 مرات ضدهم، ما أوقع عدداً من الإصابات، قالوا إنّها لم تتخط العشرة مقاتلين، بينما أشاروا إلى أنّهم أسروا نحو ستين من "الشبيحة" الموالين للنظام، وقتلوا العشرات منهم ومن الضباط والجنود.

ردّ قوات النظام، عكس قلقها من تقدم المعارضة من خلال "جيب" الدخانية، فلم تكتفِ بقصف الحي وتحويله إلى ركام، بل كثّفت النيران والغارات الجوية في عمق الغوطة الشرقية، قصفت وادي عين ترما، في الجهة الشمالية للحي، وأغارت الطائرات الحربية، محدثة سلسلة من المجازر المتتالية في دوما وعربين وسقبا.

بصرف النظر عن الجدال بين المعارضة والنظام، لتوصيف ما حدث الاثنين، ما اذا كان انسحاباً "تكتيكياً" للمعارضة، على اعتبار أن الحرب "كرّ وفر"، أم أنّه استعادة بالقوة من قبل قوات النظام بفضل تفوقه بالسلاح واستخدام الكيماوي، فإن من المؤكد أن هناك عدداً من الحقائق التي خلفتها المعركة التي استمرت أربعة أسابيع.

إذ لم تتمكن فصائل المعارضة من تحقيق أي من الأهداف العسكرية المعلنة، لجهة تخفيف الضغط عن جبهة جوبر، أو تهديد طريق المطار والمقرّات الأمنية القريبة، أو تشكيل حالة من الردع لتوغّل النظام في الغوطة الشرقية، بل على العكس قوبل تقدمها بالمزيد من التصعيد العسكري، دفع ثمنه المدنيون في عدد من المجازر المتوالية.

وإن كان هناك من انجاز عسكري للمعارضة، فهو ليس أكثر من مقتل عشرات الموالين و"الشبيحة"، بينهم بعض الضباط، وهؤلاء بالنسبة للنظام، هم بالأساس أرقام ووقود لا تشكل خسارتهم أي تحول نوعي في المعركة، والإنجاز الأخر المتعلق بتهديد النظام ومفاجأته في مكان لا يتوقعه، سيتحول مع الانسحاب من الحي إلى تنبيه، سيتم أخذه بعين الاعتبار لزيادة التحصينات كي لا تتكرر المحاولة ثانية.

وفي المقابل إن تحدثنا عن الثمن، الذي سدده سكان الحي من المدنيين والبالغ عددهم نحو 80 
ألفاً بين سكان أصليين ونازحين، دمرت بيوتهم، ونهبت محتوياتها، وضاعت أرزاقهم أسوة بما حصل في المناطق المشابهة، ما يعني أننا نتحدث عن كارثة إنسانية.

فقد بدأت الاتهامات المتبادلة بين الطرفين على مواقع التواصل الاجتماعي، فالنظام عادة ما يمنع الأهالي لأيام من دخول المناطق التي يستعيدها، بحجة التمشيط وتفكيك الألغام، إذ يترك "للشبيحة" والمشاركين في القتال، نهب البيوت ونقلها إلى المناطق الموالية لبيعها، وهذا ما دفع المشايخ في مدينة مثل جرمانا إلى إصدار بيان يحرم شراء المسروقات.

ونحن نتحدث هنا ليس فقط عن منطقة عشوائيات، بل عن تجمع لأحد أشد أحزمة الفقر بؤساً في محيط دمشق، يسكنه خليط من البشر القادمين من مناطق مختلفة من سورية، بحثاً عن فرصة عمل، وبداية جديدة، على هامش العاصمة دمشق بعدما ضاقت بهم سبل العيش في مناطقهم، معظمهم قادمون من مناطق الجفاف في الجزيرة السورية بالشمال ومن ريف حلب وقرى القلمون، وقرى الساحل وغيرها.

وكان يمكن تبرير "التضحية" في الحي، في سياق انجاز عسكري كبير، فيه خلاص لكل السوريين، كما العبور للسيطرة على دمشق، أو على الأقل كسر الحصار واتصال الغوطتين الشرقية والغربية، أو حتى قطع طريق المطار ذي الأهمية الاستراتيجية لاستمرار النظام، لكن أياً من هذه الأهداف لا يبدو في متناول يد فصائل المعارضة.

اليوم يتكرر ما حدث بالدخانية، ما سبق وحدث أيضاً في مواقع أخرى لقرى وبلدات مدنية، آخرها كان "عدرا العمالية"، التي تم تدمير منازلها ونهب محتوياتها وتشريد أهلها، دون تحقيق انجازات عسكرية هامة من قبيل قطع الطريق الدولي دمشق ـ حمص، أو فك حصار الغوطة وتحقيق التواصل بين القلمون والغوطة الشرقية وغيرها.

هذا ما جعل الحديث عن "حرب عبثية" يسدد فواتيرها المدنيون، من حياتهم وأرزاقهم دون نتائج واضحة، مبرراً ويجد صداه لدى السوريين بما فيهم الحواضن التي تساند المعارضة المسلحة، مدركين أنّه أن الأوان لوضع خطط شاملة وموحدة، وإيجاد قيادة موحدة، تخلّص السوريين من حالة "الكرّ والفرّ"، التي تعبث بحياتهم وتحولهم إلى ضحايا.