07 نوفمبر 2024
سورية.."طرش الدم" في السويداء
تَعمّم في مدينة السويداء السورية، قبل أيام، مقترحٌ على الأهالي، هو وثيقة تُسمى "طرش الدم"، تعود إلى 300 عام خلت، وتقول بهدر دم كل سارقٍ أو مغتصب أو قاتل، وتفترض توقيع كل العشائر الدرزيّة عليها، وذلك لكي يصبح المجرم فرداً، وألا يجد من يدافع عنه. وطبعاً، لا ديّة ولا ثأر لمن يقع عليه الحكم، ويبدو أن الوثيقة كانت متوافقةً مع ذلك العصر، وبما يُوقف أيّ تعدياتٍ "للمجرمين"، وطبعاً تشدّ الوثيقة من أزر الطائفة، إزاء أي تهديداتٍ قد تتعرّض لها، وبالتالي، لهذه الوثيقة مفعولُ القانون الديني والاجتماعي، ويُطبقها "قضاة"، وبما يُديم سيطرة مشيخة العقل والزعماء المتنفذين.
منذ أكثر من عامين، يشعرُ أهالي مدينة السويداء بتراجع السلطة القضائية والقانونية، وتصاعد العمليات الإجرامية والأفعال المُسيئة للمجتمع بعامة، ويُرافق ذلك تسليحٌ عامٌ للمدينة، ويتوزّع على مجموعاتٍ دينيّة أو المجموعات المرتبطة بالدولة، وقد تراجع دور المؤسسات الأمنية هناك، وأيضاً قويت شوكة المعارضة السياسية، عدا عن ظاهرة الشيخ وحيد بلعوس، والذي قُتل مع قسمٍ من مجموعته، وانتقلت الزعامة إلى أخيه ولأولاده، وهي، وإن ظلت تُشكل ظاهرة وتسمى "رجال الكرامة"، إلّا أنّها توقفت عن الصدام مع الأجهزة الأمنيّة، وأصبحت أعمالُها تقتصر على إخراج هاربٍ أو مُتخلفٍ عن الخدمة وفك محتجزٍ لدى أحد الفروع وسوى ذلك، وبالتالي هناك غضبٌ شعبيٌّ من كثرة الأفعال المسيئة للمجتمع.
اختُطفت ممرضةٌ في رابعة النهار، وعلى الرغم من وجود الأمن والشرطة في مكان
الاختطاف، فإنهم لم يتحرّكوا لإيقاف "المجرم"، لكن الفتاة لم تُقتل، وعادت إلى أسرتها. وعلى خلفية ذلك، طُرحُت وثيقة طرش الدم، لاعتمادها قانوناً يُطبق في المدينة، وتتشكل بموجبه محكمة قبلية "دينية"، وينفذ حكم الإعدام بالمُختطف أو أي مجرم آخر؟ وسارع أحد الزعماء، وعبر "زلمه"، لأخذ موافقة من عشائر السويداء وعائلاتها، ليتم اعتمادها، وبما يوحي وكأن المدينة استقلت عن الدولة! وحالما حدث ذلك، نشأ انقسامٌ مجتمعيٌّ واسعٌ؛ فهناك من هو مؤيدٌ لها وللخلاص من الفوضى، وهم من كل الفئات الاجتماعية، وهناك من هو رافضٌ لها، وأيضاً من كل الفئات الاجتماعية. الإشكالية أن تعميم هذه الوثيقة جاء ضمن خطة مُنظّمة من أجهزة الأمن وحزب البعث ومشايخ العقل، وبعض الزعماء. وبالتالي: ما الهدف من طرش الدم هذا؟
يحتمل الموضوع أكثر من تفسير. الأهم بينها هو دفع المدينة والدروز إلى الانضباط في إطار التبعية الكاملة للسلطة، سيما أن المدينة رفضت إرسال أولادها إلى الحرب، وفيها آلاف الفارّين من الجندية الإجبارية، وفيها معارضة أعلنت الانضمام إلى الثورة المندلعة منذ 2011، وبالتالي يجب إحداث واقع جديد، يدفع المدينة مجدداً إلى خيارات في غاية التشاؤم. هناك الآن إعلان عن منطقة آمنة في مدينة درعا، وستكون مَحميةً من غرفة الموك، عبر تدخل أردني وإسرائيلي وأميركي، وبالتالي قد يضطرب وضع السلطة بشكل كبير في السويداء المحاذية لمدينة درعا، ونضيف إن هناك حساسية "درزية" لأية تدخلات استعمارية.
تغري هذه العناصر السلطة لتلعب على هذه الورقة، ومحاولة إخضاع المدينة مجدّداً، وبغياب تحقق ذلك، وهو ما يعتقده كاتب هذه السطور، ستغرق المدينة في مشكلات وانقسامات أهلية بين رافضينَ للدم ولكنهم ضعفاء وموافقين عليه وهم كثيرون. تجذير قوانين ومحاكم شعبية كهذه، واحتمال إجراء إعدام لهذا الشاب، سيؤدي إلى عداوات جديدة، ما سيدفع مدينة السويداء إلى أن تحكم بعقلية عشائرية ودينية، وبالتالي سيتمكن النظام من السيطرة عليها مجدّداً. وفي أسوأ الأحوال، يكون الانتقام قد تحقق من مدينةٍ رفضت الإذعان للنظام، وأعلنت قطاعاتٌ كبيرة منها الصمت، وانضمت أكثرية مثقفيها وحراكها السياسي للثورة.
لم تكن السويداء أول من طرح "طرش الدم" حلاً لغياب الدولة؛ فهناك أقسامٌ في المعارضة
ذاتها طرحت، ومنذ 2011، أنها تريد مقاطعة الدولة، وتعامل آخرون مع ممتلكات الدولة، عقارات وأماكن ومصانع وسواها، باعتبارها مستباحة! بل وجرى التعامل مع عناصر الدولة، مثل عناصر أمن أو جيش أو شرطة، وأحياناً الموظفين، باعتبارهم أعداء خالصين يجب قتلهم. وجاء الأسوأ مع الحركات السلفية والجهادية، فهي بالأصل لا تعترف بالدولة ولا بقوانينها، وإذا طالبت قطاعاتٌ شعبيةٌ بإصلاحاتٍ عامة في الأشهر الأولى للثورة، ولكنها لم تطرح بديلاً قانونيّاً وقضائيّاً لحل المشكلات الناشئة في المناطق الخارجة عن السلطة، فإن السلفيين والجهاديين كانوا السباقين إلى إنشاء محاكمهم الشرعية، وفرضوا قوانينهم على الشعب، واعتبروا كل مخالفة لسلطاتهم مخالفة للشرع. كما قام تنظيم الاتحاد الديمقراطي الكردي، وزعيمه صالح مسلم، بطرح دستور وقوانين خاصة به.
إذاً، تراجع تطبيق القانون في سورية، وأصبح الفساد سيد الأحكام، بدءاً من المدن التابعة للدولة كذلك. والنتيجة مما سبق أن سورية مُستباحة لجماعات كثيرة، ومنها السلطة الحاكمة، وجميع هذه السلطات معنية بتدعيم "ملوكها"، وهو ما يقتضي شيوع الفوضى وعدم تطبيق القانون وتعميم شريعة الغاب.
النقاش الجاري في السويداء، كما في بقية المدن السورية، ومهما كانت الانتقادات للقانون العام في سورية، يجب ألّا يدفع إلى رفض الدستور والقوانين الحاليّة إلّا نحو قوانين أفضل منها، كما يطرح في لقاءات جنيف. أي التوصل إلى دستور وقوانين تعزيز الميل المواطني، وتُعلي من شأن الإنسان، وتدمج أفراد الشعب في إطار الدولة؛ وبالتالي ليس "طرش الدم" هذا حلاً للمشكلات السوريّة، كما أن استمرار الصراع العسكري هو ما يبعث هذه الوثيقة وسواها، والتي تعود إلى قرون مضت، أو تخص جماعات بشرية محدّدة.
رفضُ السوريين الكامل، أينما كانوا، قوانين كهذه هو الحل، والعمل من أجل دستور أو إعلان دستوري جديد أمر ضروري. الفوضى في كل سورية، وليست في السويداء فقط. وبالتأكيد، ليست القوانين الدموية حلاً.
منذ أكثر من عامين، يشعرُ أهالي مدينة السويداء بتراجع السلطة القضائية والقانونية، وتصاعد العمليات الإجرامية والأفعال المُسيئة للمجتمع بعامة، ويُرافق ذلك تسليحٌ عامٌ للمدينة، ويتوزّع على مجموعاتٍ دينيّة أو المجموعات المرتبطة بالدولة، وقد تراجع دور المؤسسات الأمنية هناك، وأيضاً قويت شوكة المعارضة السياسية، عدا عن ظاهرة الشيخ وحيد بلعوس، والذي قُتل مع قسمٍ من مجموعته، وانتقلت الزعامة إلى أخيه ولأولاده، وهي، وإن ظلت تُشكل ظاهرة وتسمى "رجال الكرامة"، إلّا أنّها توقفت عن الصدام مع الأجهزة الأمنيّة، وأصبحت أعمالُها تقتصر على إخراج هاربٍ أو مُتخلفٍ عن الخدمة وفك محتجزٍ لدى أحد الفروع وسوى ذلك، وبالتالي هناك غضبٌ شعبيٌّ من كثرة الأفعال المسيئة للمجتمع.
اختُطفت ممرضةٌ في رابعة النهار، وعلى الرغم من وجود الأمن والشرطة في مكان
يحتمل الموضوع أكثر من تفسير. الأهم بينها هو دفع المدينة والدروز إلى الانضباط في إطار التبعية الكاملة للسلطة، سيما أن المدينة رفضت إرسال أولادها إلى الحرب، وفيها آلاف الفارّين من الجندية الإجبارية، وفيها معارضة أعلنت الانضمام إلى الثورة المندلعة منذ 2011، وبالتالي يجب إحداث واقع جديد، يدفع المدينة مجدداً إلى خيارات في غاية التشاؤم. هناك الآن إعلان عن منطقة آمنة في مدينة درعا، وستكون مَحميةً من غرفة الموك، عبر تدخل أردني وإسرائيلي وأميركي، وبالتالي قد يضطرب وضع السلطة بشكل كبير في السويداء المحاذية لمدينة درعا، ونضيف إن هناك حساسية "درزية" لأية تدخلات استعمارية.
تغري هذه العناصر السلطة لتلعب على هذه الورقة، ومحاولة إخضاع المدينة مجدّداً، وبغياب تحقق ذلك، وهو ما يعتقده كاتب هذه السطور، ستغرق المدينة في مشكلات وانقسامات أهلية بين رافضينَ للدم ولكنهم ضعفاء وموافقين عليه وهم كثيرون. تجذير قوانين ومحاكم شعبية كهذه، واحتمال إجراء إعدام لهذا الشاب، سيؤدي إلى عداوات جديدة، ما سيدفع مدينة السويداء إلى أن تحكم بعقلية عشائرية ودينية، وبالتالي سيتمكن النظام من السيطرة عليها مجدّداً. وفي أسوأ الأحوال، يكون الانتقام قد تحقق من مدينةٍ رفضت الإذعان للنظام، وأعلنت قطاعاتٌ كبيرة منها الصمت، وانضمت أكثرية مثقفيها وحراكها السياسي للثورة.
لم تكن السويداء أول من طرح "طرش الدم" حلاً لغياب الدولة؛ فهناك أقسامٌ في المعارضة
إذاً، تراجع تطبيق القانون في سورية، وأصبح الفساد سيد الأحكام، بدءاً من المدن التابعة للدولة كذلك. والنتيجة مما سبق أن سورية مُستباحة لجماعات كثيرة، ومنها السلطة الحاكمة، وجميع هذه السلطات معنية بتدعيم "ملوكها"، وهو ما يقتضي شيوع الفوضى وعدم تطبيق القانون وتعميم شريعة الغاب.
النقاش الجاري في السويداء، كما في بقية المدن السورية، ومهما كانت الانتقادات للقانون العام في سورية، يجب ألّا يدفع إلى رفض الدستور والقوانين الحاليّة إلّا نحو قوانين أفضل منها، كما يطرح في لقاءات جنيف. أي التوصل إلى دستور وقوانين تعزيز الميل المواطني، وتُعلي من شأن الإنسان، وتدمج أفراد الشعب في إطار الدولة؛ وبالتالي ليس "طرش الدم" هذا حلاً للمشكلات السوريّة، كما أن استمرار الصراع العسكري هو ما يبعث هذه الوثيقة وسواها، والتي تعود إلى قرون مضت، أو تخص جماعات بشرية محدّدة.
رفضُ السوريين الكامل، أينما كانوا، قوانين كهذه هو الحل، والعمل من أجل دستور أو إعلان دستوري جديد أمر ضروري. الفوضى في كل سورية، وليست في السويداء فقط. وبالتأكيد، ليست القوانين الدموية حلاً.