مخاض عسير لا يزال يواجه تنفيذ اتفاقية السلام في دولة جنوب السودان، التي وقّعها الفرقاء الجنوبيون نهاية شهر أغسطس/آب الماضي. ولم توقف الاتفاقية الموقّعة بين الحكومة في جوبا و"الحركة الشعبية" المسلّحة بقيادة رياك مشار ومجموعة المعتقلين العشرة بزعامة باقان أموم، المعارك بين الطرفين اللذين تبادلا الاتهامات بالمبادرة بالهجوم.
ويحبس الجنوبيون، إضافة إلى المجتمع الدولي، أنفاسهم وهم يتابعون بقلق سير تنفيذ اتفاقية السلام التي وُلدت متعثرة، لا سيما بعد إعلان الحكومة في جوبا والمعارضة، تحفظاتهما عليها والتأكيد أن التوقيع تمّ على مضض وتحت الضغط الإقليمي والدولي. وحذر رئيس بعثة الاتحاد الأفريقي لدولة جنوب السودان ألفا عمر كوناري، من تحوّل الوضع في الجنوب إلى فوضى شاملة في حال عدم التزام الأطراف المعنية بالاتفاقية وإبقاء الوضع كما هو عليه، في ظل الانتهاكات المتكررة لقرار وقف إطلاق النار.
وكان خلاف دار حول حجم وفد المعارضة المسلحة الذي سيتوجّه إلى جوبا للعمل على تطبيق اتفاقية السلام، إذ تمسّكت المعارضة بإيفاد 500 شخص، فيما ارتأت الحكومة الجنوبية أن يكون العدد في حدود الخمسين شخصاً لتسهيل عملية الاستضافة. لكن الهيئة الحكومية للتنمية في دول شرق أفريقيا "إيغاد" توصّلت لحل وسط، بأن يكون الوفد في حدود 150 شخصاً، ووصل منه الإثنين الماضي 15 شخصاً إلى جوبا، بينما يُنتظر أن تصل البقية تباعاً، للشروع فوراً في ترتيبات تنفيذ الاتفاق على الحكومة الانتقالية، التي من المتوقّع أن تُعلن في نهاية يناير/كانون الثاني المقبل، فضلاً عن تعديل الدستور.
ويخشى مراقبون أن يطيح "شيطان التفاصيل" بالاتفاقية، لا سيما أن هناك جملة قضايا بمثابة قنبلة موقوتة أمام التنفيذ، بينها تقسيم الحقائب الوزارية وتعديل الدستور، وقرار حكومة الجنوب بتقسيم الولايات إلى 28 ولاية، خصوصاً أن مجموعة مشار، سبق أن ربطت إرسال وفدها إلى جوبا بتراجع رئيس جنوب السودان سلفاكير ميارديت عن قرار التقسيم، والإبقاء على الولايات الجنوبية عشراً كما كانت. قبل أن تعود الحركة وترهن وصول مشار إلى جوبا بتلك الخطوة إضافة إلى تعديل الدستور وإدراج الاتفاقية الأخيرة فيه. وما زاد من تفاقم الخلافات، إصدار سلفاكير مساء الخميس الماضي، قراراً بتعيين حكّام الولايات الجديدة التي يبلغ عددها 28. هذا القرار أدانته المعارضة بقيادة مشار، مطالبةً الرئيس الجنوبي بالتراجع عنه وإتاحة الفرصة أمام تنفيذ اتفاقية السلام.
وكان وزير الإعلام الجنوبي مايكل مكواي، أكد أن اللجان بدأت أعمالها لتنفيذ الاتفاقية والاتفاق على الحكومة الانتقالية، نافياً تماماً توجّه الحكومة للتراجع عن قرارها بزيادة عدد الولايات إلى 28 ولاية. وشدد على أن هذا القرار نهائي، مذكّراً بأن تقسيم السلطة سيتم وفق تفسير الاتفاقية، "فبدلاً من أن يكون لهم حاكم واحد في أعالي النيل، سيكون لهم ثلاثة حكام بسبب تقسيمها لثلاث ولايات"، مشدداً على أن "هذا التقسيم في صالح التمرد ولا يضر بالاتفاقية".
اقرأ أيضاً: تقسيم جنوب السودان لـ28 ولاية: تعزيز القبلية لضرب السلام؟
إضافة إلى مشكلة تقسيم الولايات، تُشكّك المعارضة في جدية الحكومة في جوبا بسحب القوات العسكرية لمسافة 25 كيلومتراً عن العاصمة لجعلها منطقة منزوعة السلاح وفقاً للاتفاقية، لا سيما أن الحكومة بدأت في سحب جزء من تلك القوات في 23 نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، ولكنها أوقفت العملية بحجة عدم تهيئة المناخ.
ويدافع المتحدث الرسمي باسم الجيش الجنوبي فيليب اقوير، عن خطوة الحكومة إيقاف عملية الانسحاب من جوبا وفقاً للاتفاقية، مؤكداً لـ"العربي الجديد" التزام الحكومة بالتنفيذ، موضحاً أن "عملية الانسحاب تمت بشكل جزئي بسبب عدم وجود ثكنات مجهزة لاستيعاب تلك القوات، إذ تفتقر حتى للماء، ولكن عندما يتم تجهيز الثكنات سنستأنف الانسحاب".
في المقابل هناك مشاكل داخلية تتصل بـ"الحركة الشعبية" كتنظيم، لا سيما بعد التوقيع على اتفاقية أروشا الخاصة بتوحيد الحركة، والتي أقرت بإعادة كافة قيادات الحركة الذين فصلوا منها قبل أحداث الحرب إلى مواقعهم، بما فيهم مجموعة المعتقلين العشرة برئاسة الأمين العام للحركة المقال باقان أموم، فضلاً عن إعادة مشار إلى منصبه كنائب لرئيس الحركة. هذا الأمر يرى فيه محللون أنه سيُفقد العديد مواقعهم في الحكومة والحزب، ما سيجعلهم يجنحون نحو تعقيد وتعطيل الاتفاق حتى لا تتضرر مصالحهم، وهذا ما بدأ يظهر عبر اجتماع المكتب القيادي الذي دعا له رئيس الحركة سلفاكير ميارديت قبل أسبوعين وعاد ليلغيه بسبب الخلافات الداخلية.
ويرى الخبير في الملف الجنوبي ورئيس جمعية "الأخوة الشمالية الجنوبية" محجوب محمد صالح، أن القيادة في جوبا تواجه صعوبات متصلة بالتعديلات على مستويي الحزب والحكومة، خصوصاً أن التعامل وفق الحصص المحددة يُفقد هذه القيادة نصف المقاعد الحزبية والحكومية، إضافة إلى صعوبات للاتفاق حول الحقائب الوزارية، الأمر الذي يُرجح صالح أن يأخذ وقتاً من النقاش والجدل وربما يُحدث أزمة. ولكنه يعتبر أن وصول وفد من المعارضة إلى جوبا بعد تأخير لشهر كامل عن الموعد المحدد، خطوة إيجابية، على الرغم من إشارته إلى أن "الوضع الحالي لا يُشجع على التفاؤل بالنظر إلى حدة الصراعات وأخذها طابعاً شخصياً".
وكان رئيس لجنة المراقبة والتقييم لاتفاقية السلام فيستوس موغا، طالب في بيان عقب لقاء جمع سلفاكير مع وفد المعارضة، الطرفين بالجدية في تنفيذ الاتفاق، مؤكداً ضرورة أن يجيب الفرقاء الجنوبيون على من يشككون في واقع السلام الجنوبي عبر خطوات ملموسة.
وفي ظل هذه الأجواء، أصدرت القيادة العسكرية توجيهات الأسبوع الماضي بإسقاط أي طائرة تدخل الأجواء الجنوبية من دون تصريح رسمي، واتهمت جهات لم تسمها باختراق المجال الجنوبي الجوي وإدخال السلاح بالطيران، فضلاً عن نقل أشخاص بشكل سري في مناطق مختلفة بولاية "غرب الاستوائية".
ومرت منتصف شهر ديسمبر/كانون الأول الحالي، الذكرى الثانية للحرب الأهلية في جنوب السودان التي اندلعت في عام 2013 وأدت إلى مقتل ما يزيد عن عشرة آلاف شخص وتشريد نحو مليوني ونصف مليون نسمة. كما تسبّبت بتفاقم المشاكل المعيشية والاقتصادية بعد تراجع إنتاج النفط بسبب الحرب، ومعاناة البلاد من شح في النقد، فضلاً عن الأزمات الاقتصادية المتلاحقة التي دفعت الحكومة أخيراً إلى تعويم سعر العملات الأجنبية، في محاولة لكبح جماح ارتفاع الدولار الذي وصل إلى نحو 18,5 جنيها جنوبيا، وزادت معه أسعار السلع بشك جنوني، ما أجبر بعض التجار على إغلاق محالهم التجارية.
ويرى المحلل الجنوبي اتيم سايمون، أن الواقع الجنوبي بعد عامين من الحرب، أصبح أكثر تعقيداً في ظل انعدام فرص الحل الشامل، لا سيما أن كل طرف يتمسّك بمواقفه المتشددة ورفض عملية السلام التي ينظرون لها كنوع من الضغط الدولي الذي يرمي إلى تسليمهما للمحاكمة. ويُرجح أن يواجه تنفيذ اتفاقية السلام عقبات كبيرة في ظل انعدام الرغبة والإرادة السياسية والتعويل على الخيار العسكري على المدى الطويل، مشدداً على أهمية عقد هيئة "إيغاد" قمة عاجلة في جوبا لدعم مفوضية المراقبة والتقييم هناك للقيام بمهامها، بعدما أدى تأجيل تلك القمة إلى خلق انطباع لدى الحكومة في جوبا بأن المجتمعين الإقليمي والدولي لا يمارسان أي دور رقابي، فضلاً عن الضغط على الأطراف الرافضة لعملية السلام.
وفي خطوة متوقعة، مدد مجلس الأمن الدولي الثلاثاء الماضي مهمة البعثة الأممية في جنوب السودان حتى 31 يوليو/تموز المقبل. كما قرر زيادة عدد القوات هناك والبالغة 12 ألفاً وخمسمائة، بنحو 600 شرطي و500 جندي، فضلاً عن تزويد البعثة بطائرات من دون طيار وهذا أمر كانت ترفضه جوبا باعتباره يؤثر على سيادتها.
اقرأ أيضاً: سلام جنوب السودان مهدد: عثرات كثيرة وخروقات متواصلة