تطرح سيطرة حركة "طالبان" على مدينة قندوز الاستراتيجية، التي تربط أفغانستان بطاجكستان من خلال معبر شيرخان، تساؤلات كثيرة حول أسباب نقل الحرب إلى الشمال الأفغاني ووصول العدد الكبير من مقاتلي الحركة إلى تلك المنطقة.
ويرى البعض أن نقل ثقل الحرب إلى الشمال الأفغاني يجري برضاً أميركيٍّ، والهدف هو تهديد دول آسيا الوسطى وروسيا. فسقوط هذه المدينة الاستراتيجية في قبضة "طالبان" تهديد مباشر لطاجكستان أولاً ولدول آسيا الوسطى ثانياً ولروسيا ثالثاً. كما يتساءل الكثيرون من أين استحوذت "طالبان" على الأسلحة المتطورة التي تملكها، في حين يفتقر الجيش الأفغاني إلى مثل هذه الأسلحة؟
وتشير بعض القراءات إلى أن نقل ثقل الحرب إلى الشمال أولاً، ثم سقوط مدينة قندوز ثانياً، لهما أهداف اقتصادية وسياسية معاً. وبالعودة إلى الوراء قليلاً، فإن أفغانستان وقّعت اتفاقيات اقتصادية جمة مع الصين وطاجكستان وتركمانستان. وكل تلك المشاريع تتعلق بشمال أفغانستان، إذ كانت طاجكستان على وشك بدء العمل بالسكة الحديدية مع أفغانستان والتي تمر في الأساس عبر إقليم قندوز. كما أن الصين وأفغانستان بدأتا العمل على فتح طريق أبريشم الذي يربط الصين بشمال أفغانستان أولاً ثم بدول آسيا الوسطى ثانياً. وكانت المشاريع الاقتصادية الصينية هي السبب الأساسي في دخول بكين على خط الجهود التي تبذل لحلحلة الأزمة الأمنية الأفغانية.
في المقابل، فإن القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة لا ترضى بالنفوذ الصيني في أفغانستان، إضافة إلى أن بعض دول المنطقة التي تعتمد عليها أفغانستان اقتصادياً، والتي استثمرت كثيراً على مدى العقود من خلال الحرب بالإنابة في هذه البلاد، لن ترضى بأن تعتمد أفغانستان على دول أخرى ومنها الصين وروسيا ودول آسيا الوسطى. ومن المعلوم أن سقوط قندوز سيؤجل تلك المشاريع كلها إن لم يلغها في الوقت الراهن.
في المقابل، يربط بعض الأفغان بين سقوط قندوز، والهجوم الأخير لتنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش) في ننجرهار قبل ثلاثة أيام، والذي شارك فيه مئات المسلحين، ويرون أن الاستخبارات الأجنبية تقود كل تلك الهجمات من الوراء. بل إن بعض الأفغان يعتبر أن هذه الهجمات تأتي انتقاماً لهجوم "طالبان باكستان" على مجمع لسلاح الجو الباكستاني، وأنها تحدث بمباركة باكستان ودعمها المباشر لـ"طالبان" وجميع الجماعات المسلحة.
وأياً كانت أهداف إسقاط مدينة قندوز والمعارك في شمال البلاد إلا أن النتائج الواضحة أنها تُشكّل انتصاراً لـ"طالبان"، وصفعة في وجه الحكومة. وهي انتكاسة للمشاريع الصينية الأفغانية من جهة، ومشاريع أفغانستان مع دول آسيا الوسطى من جهة أخرى. كما أنها تهديد لدول آسيا الوسطى وروسيا، ما قد يكون فرصة لدى الحكومة الأفغانية للحصول على دعم روسيا لأجل تجهيز جيشها إذا كانت القوات الأميركية تتباطأ في ذلك.
كما أن دخول "طالبان" بهذه الجاهزية والعدد يخلق أسئلة عديدة بعضها تتعلق بأداء القوات الأميركية والدولية في أفغانستان. لكن تبقى سيطرة "طالبان" على قندوز ودخولها بالطريقة التي تمت وإحراق المباني الحكومية يثيران مخاوف كثيرة لدى المواطن الأفغاني.
اقرأ أيضاً: الجيش الأفغاني يحاول استعادة مدينة استراتيجية من "طالبان"
لكن يبدو أن سيطرة الحركة على المدينة لن تستمر لفترة طويلة، إذ بدأت قوات الأمن الأفغانية أمس الثلاثاء عملية عسكرية من عدة جهات لاستعادة السيطرة على قندوز، التي دخلتها الحركة ليل الإثنين بعد معارك ضارية، وأطلقت سراح ما لا يقل عن 700 سجين كانوا في السجن المركزي، من بينهم عشرات من عناصر الحركة، إضافة إلى آخرين كانوا في السجن على خلفية ملفات جنائية، وحقوقية. كذلك أقدم المسلحون فور دخولهم إلى قندوز على إضرام النار في مبنى الحكومة المحلية، ومبنى الأمن، والمحكمة، ومكتب الأمم المتحدة، والإذاعة المحلية وغيرها من المباني الحكومية وأخرى تابعة للمؤسسات الدولية والمحلية. ويقول محمد شاهد أحد سكان المدينة لـ"العربي الجديد" إن أعمدة الدخان كانت تتصاعد من تلك المباني طيلة الليل الفائت.
كما نفذت "طالبان" إعدامات ميدانية بحق بعض المسؤولين في الحكومة المحلية، وبعض المنتسبين إلى الجهاد الأفغاني السابق. كما أعلنت مصادر حكومية أن المسلحين قاموا بنهب البنوك الحكومية والخاصة وبعض محال الذهب، ولكن سكان المدينة لم يؤكدوا ذلك خلال حديثهم مع "العربي الجديد".
تحركات "طالبان" المتسارعة، كانت تشير منذ اللحظة الأولى إلى أن الحركة تسعى للاستقرار في هذه المدينة الاستراتيجية والمهمة لكل من أفغانستان ودول آسيا الوسطى وروسيا وحتى الصين نظراً لمشاريعها الاقتصادية الجمة التي تتعلق بشمال البلاد. فخلال ليلة الإثنين-الثلاثاء، هنأ زعيم "طالبان" أختر منصور الشعب الأفغاني بإسقاط مدينة قندوز والذي سماه "النصر المبين"، مطالباً المسلحين بالحفاظ على حياة المواطن وعدم التعرّض للممتلكات العامة. كما قال المتحدث باسم الحركة ذبيح الله مجاهد في بيان له إن المسلحين سيطروا على كافة مدينة قندوز، بعد أن قتلوا خمسة عشر جندياً أفغانياً خلال معارك يوم الإثنين. ولكن لم يتحدث منصور ومجاهد عن خطة الحركة المستقبلية إزاء هذه المدينة التي سقطت نتيجة معارك حصدت أرواح العشرات، بينهم 35 مسلحاً كما أعلن الجيش، و15 عنصراً من الجيش، كما قالت "طالبان"، بالإضافة إلى مقتل 5 مدنيين وإصابة 65 آخرين وفق مصادر طبية في المدينة.
وفي الليلة نفسها عقد نائب قائد القوات المسلحة الأفغانية الجنرال مراد علي مراد، مؤتمراً صحافياً عاجلاً، أكد فيه أن القوات المسلّحة لم تخرج من المدينة، وإنما انسحبت نحو المطار والثكنات العسكرية، وتستعد لهجوم معاكس، مشدداً على أن القوات المسلحة تجنبت القتال داخل المدينة خوفاً على حياة المواطنين. فيما قال المتحدث باسم الداخلية الأفغانية صديق صديقي إن المسلحين تمركزوا داخل منازل المواطنين واتخذوهم دروعاً بشرية.
ومع طلوع فجر الثلاثاء بدأت المروحيات الحربية التابعة لوزارة الدفاع الأفغانية والمقاتلات التابعة لحلف شمال الأطلسي بشن غارات على ضواحي المدينة، حيث يتمركز مسلحو "طالبان". بعد ذلك أعلنت وزارة الدفاع الأفغانية بدء عملية واسعة ضد الحركة، وهاجم الجيش مسلحي "طالبان" الذين كانوا يجوبون شوارع وأزقة المدينة، ويتحصنون في المباني الحكومية. وبعد أقل من ساعتين تمكنت قوات الجيش من استعادة السيطرة على السجن المركزي ومبنى الأمن الرئيسي، وبدأت تتقدّم صوب المدينة.
وبالنظر إلى قدرة المقاومة لدى "طالبان" داخل المدينة، كما يقول سكانها، فلا يبدو أن مقاتلي الحركة سيصمدون طويلاً، لا سيما أنهم بدأوا خلال ليل الإثنين-الثلاثاء نقل المعدات العسكرية إلى خارج المدينة وإلى المديريات التي هي في قبضة الحركة منذ فترة. ويقول أحد سكان المدينة ويدعى حميد الله لـ"العربي الجديد"، إنه مع انطلاق عملية الجيش، بدأت "طالبان" الاستعداد للخروج ونقل السيارات والمدرعات إلى خارج قندوز.
اقرأ أيضاً: "طالبان" تسيطر على معظم مدينة قندوز شمالي أفغانستان