العار على العالم. هذا هو العنوان، الذي وضعته البريوديكو الإسبانية، تجاه ما يحدث في الأراضي الفلسطينية من عدوان إسرائيلي غاشم على سكان قطاع غزة. تحدث الإعلام الأوروبي عن جرائم الحرب المستمرة كل يوم على الأبرياء دون وجه حق، وكأنهم استعاروا مقولة أمل دنقل:
لم يبق من شيء يقال/ يا أرض: هل يلد الرجال؟
ليردّ المهاجم المالي فريدريك كانوتيه على حسابه الرسمي في موقع التواصل، " تويتر "، معبـّراً عن تضامنه الكامل مع غزة أرضاً وشعباً.
ولأن كرة القدم جزء من حياتنا، فإن هناك بعض الحكايات، التي تكشف عن أدوار نضالية واجتماعية وسياسية للاعبين الذين يتمتعون بشعبية كبيرة وتأثير على حياة كثيرين، وكأن المستطيل الأخضر أقرب إلى ساحة الميدان، الذي تخرج منه أسمى معاني الثورة والحرية والعدالة الاجتماعية. وحينما نتحدث عن ممارسة السياسة داخل كرة القدم، علينا استعادة ذكريات برازيليو سامبايو دي سوزا فييرا دي أوليفيرا، سـقراط.
جيفارا اللعبة
كرة القدم في البرازيل لها سحر خاص. البلد، الذي يتقدم في مجالات كثيرة كالاقتصاد وتداول السلطة وأمور أخرى، ما زال يعيش على واقع ملموس خاص بسطوة اللعبة الشعبية الأولى، واحتلالها مكانة رفيعة بين جميع الأحداث داخل البلاد. الدولة التي تضم عدداً وفيراً من اللاعبين المحترفين والأندية والملاعب، تتذوق الكرة بشكل مختلف، وتعتبر اللعبة بمثابة الماء والهواء لملايين العشاق والأنصار من الشعب.
ويتحدث الأديب الأوروجواياني، إدواردو جالينو، عن عظمة الكرة في أميركا اللاتينية، خصوصاً البرازيل، ويذكر أهم ثلاثة نجوم في تاريخ السيلساو، مانويل دوس سانتوس الشهير بجارينشيا، وأديسون دي ناسيمنتو أو بيليه، وأخيراً دكتور سقراط نجم الوسط. العامل المشترك بين الثلاثي أنهم من نجوم أشهر أجيال كرة القدم هناك، جارينشيا وبيليه وبرازيل 58، بينما سقراط كان نجم برازيل 82، أشهر فريق لم يفز بكأس العالم.
جارينشيا مات فقيراً معدوماً. نال حب الجماهير، وابتعد عن السلطة دائماً، أما بيليه أشهر نجم برازيلي على مر التاريخ، فوقع من أول لحظة في علاقة غرامية مع خلط الكرة بالسلطة والمال، عندما كان لاعباً وحينما أصبح وزيراً للرياضة. كل واحد في حياته يختار طريقه، وبيليه سلك المشوار التقليدي، بينما جارينشيا يُعبر باختصار عن جوانب الفقر والبؤس والإبداع في آن واحد. إنه حالة خاصة فريدة من نوعها تعتبر نموذجاً مجسّماً للأحياء الفقيرة المنسية في البلد اللاتيني.
سقراط حالة خاصة، من الصعب تصنيفه كلاعب كرة قدم فقط مثل البقية، بل هو رياضي متكامل وبطل ثائر جمع بين الرياضة والسياسة والإيمان بالقضايا الإنسانية في ملعب واحد . الطبيب الذي أنهى دراسة الطب، وتفرغ لكرة القدم. كان يملك رؤية ونظرة مختلفة في الحياة، يعتقد أن كرة القدم ليست فقط لعبة للمتعة، بل وسيلة لتحريك المياه الراكدة وأداة لتحسين أحوال بلاده.
البرازيل في الماضي خضعت لحكم عسكري ديكتاتوري ساهم في تأخرها كثيرا، أحوال اقتصادية صعبة ونظام سياسي قمعي، تفرقة عنصرية وفروقات اجتماعية شاسعة بين أفراد الشعب الواحد. سقراط كان ينتمي إلى الطبقة المتوسطة، تلك الطبقة التي تمثل غالبية الشعب المصري بالمناسبة، انحاز سقراط الى الشعب وتأثر بتربية والده، الرجل العصامي المثقف، الذي كان يملك مكتبة كبيرة، تعلم منها نجم كرة القدم الكثير من الأمور التي افادته في مشواره.
سقراط له رأي فلسفي في اللعبة، أن انتشار كرة القدم في جميع أحياء ومناطق البرازيل أدى إلى كسر جانب التمييز العرقي داخل البلاد. اتساع المدن وكثرة الملاعب جعل عدد اللاعبين أكثر، مما أدى إلى ممارسة اللعبة على نطاق واسع في الأحياء الفقيرة والمناطق العشوائية، ليصبح الفريق البرازيلي خليطاً من أعراق مختلفة وألوان مغايرة، وهذا إن دل على شيء، فإنه يؤكد علوّ قيمة كرة القدم وسعيها إلى عالم بلا عنصرية.
فيسلوف كرة القدم اتبع رأياً عمل على تنفيذه، أن الرياضة هي البداية لتغيير الأحوال السيئة داخل بلاده، البرازيل. مارس السياسة داخل كرة القدم، بدأ بتطبيق الحرية والديمقراطية مع فريقه. أجرى انتخابات بين لاعبي الفريق، لاختيار الكابتن والمتحدث الرسمي باسمهم، توقيت التمارين ومعسكرات التدريب، ووصل بهم الأمر إلى ارتداء قمصان كُتب عليها " شاركوا في انتخاب رئيس البلاد " سنة 1982.
الطبيب السابق واللاعب المثالي، رغم اختلافه مع بيليه، الا أنه دعم وجوده كوزير للرياضة، كأول رجل أسود يتولى أعلى منصب رياضي في تاريخ البرازيل. كان سقراط في قمة مجده أيام الثمانينيات، وبعد كأس العالم في ايطاليا 1982، وبالمناسبة مثّل المنتخب البرازيلي وقتها أحدَ أعظم الأجيال الكروية في التاريخ. فريق لم يحصل على بطولة، لكنه ظلّ في الذاكرة. سقراط رفض عرض خياليّاً من الديكتاتور الليبي، معمر القذافي، للترشح كرئيس للبرازيل في التسعينيات، الأسطورة يتمتع بشعبية جارفة وأرضية سياسية محترمة. النجاح أمر ليس صعباً أمامه، فقط يحتاج الى حملة مالية ضخمة. القذافي عرض عليه الأمر، لكنه رفض بشدة بسبب سياسات الليبي الظالمة في بلاده. للعلم، فإن هناك سياسيين آخرين ورؤساء كباراً وصلوا الى حكم بلادهم، ومن ثم قيادة العالم عن طريق أموال رجل مثل الرئيس الليبي السابق.
سابق عصره
فنياً، سقراط لاعب صاحب نظرة كروية مستقبلية. إنه واحد من الذين آمنوا بعولمة اللعبة، واتجاهها إلى اللا مركزية وعدم التخصص. لاعب وسط من طراز فريد، تمريراته متقنة وبناؤه للهجمة مختلف وسلس. النجم البرازيلي عشق المساحات إلى درجة مطالبته بجعل الفريق مكّوناً من تسعة لاعبين فقط، حتى تـُتاح له ولغيره فرصة أكبر في استغلال مهارتهم، ولعب كرة قدم قائمة على الفنيّات واللمسات الساحرة.
داخل الملعب، كان سقراط لاعب وسط، مهاجماً وصانعَ لعب حقيقياً، يمرر الفرص ويصنع الأهداف، ينطلق من الوسط إلى الهجوم. لم يكن دوره محصوراً في الثلث الأخير من الملعب، بل كان يعود كثيراً إلى وسط الملعب لكي يربط لاعبي الارتكاز بالمهاجمين، مع تحويل الكرات من الخلف إلى الأمام، والتواصل بين خطوط الفريق الثلاثة. نسخة قديمة جديدة من مركز صانع اللعب المتأخرالذي يُعرف بـ Deep Lying Mid، أي لاعب الوسط القادر على صناعة الهجمة دون التقدم كثيراً إلى الأمام.
هو المايسترو الحقيقي، الذي يتحكم في الكرة، ويجعلها تصل إلى المهاجم دون عناء. يقول عنه زميله سيرجينهو، إنك تشعر وكأنه لاعب شفاف، ساحر، لا تفرق معه أبداً أقدام المدافعين، ويمرر الكرات في فراغات مستحيلة، تأتيك الكرة منه على طبق من ذهب، إنه المفهوم المنطقي لصانع اللعب، الذي يتحكم في مجريات اللعب، ويكون بمثابة الترمومتر داخل المستطيل.
على طريقة جالينو، هو رجل يتسول الكرة الجميلة، طاف حول العالم بيد ممدودة، وقلب لا يعرف اليأس، يشدو لحناً رفيع المقام، ويحاول التعبير عن قضايا إنسانية بصبغة رياضية تصل إلى أبعد الحدود. إنه سقراط، الذي لو كان موجوداً في عالمنا الآن، لصنع فريقاً يلعب من أجل الحق في وجه حكم ظالم.