سعد يكن... عزلة وسط جموعٍ في المقهى

23 اغسطس 2018
"روشة بيروت"، من أعمال يكن
+ الخط -
لا أحد يعرف متى هندس سعد يكن نفسه على هذا الشكل؛ إنه فنان، لوحة، فضاء مكاني ودخان دائم.. كأنه جزء من ألوان اللوحة؛ دخان يرافقه أينما كان، بين وجوهه، أو على كرسيه في مقهى، أو حتى داخل جدرانه حيث البشرية الحالمة. 

عرفته هكذا منذ منتصف السبعينيات. عندما ولجت باب مقهى القصر لأوّل مرّة، بحذر ورهبة، كان جزءاً من المقهى، كان جزءاً من كراسيها، وهو يرتّب بذهنه هؤلاء البشر، يجلسهم على الكراسي، ثم ينهض بهم، ليرتّبهم مرّة ثانية، وهم صامتون، وعندما لا تعجبه أشكالهم يعريهم من ثيابهم، أو يجعلهم يخلعون أحذيتهم ويرتدون عواطفهم، يأخذهم معه بعيداً، ليعيد تكوينهم كما يريد. يشعل التبغ في غليونه ويمضي مع حفيف الليل.

تعرّف الكاتب وليد إخلاصي إليه قبل ذلك؛ فقد لفت انتباهه شاب لم يتجاوز العشرين من عمره، كان يتردّد على "مسرح الشعب"، مصطحباً أوراقاً عديدة وقلماً، ينزوي في ركن ويبدأ الرسم. يقول إخلاصي: "في إحدى المرّات، اقتربت منه في فترة الاستراحة، عرّف على نفسه بأنه سعد يكن، وهو يهوى الرسم. إنه يدرّب نفسه على رسم الشخصيات، وهذا المكان (المسرح) هو من أفضل الأماكن لمتابعة حركة الأشخاص وتثبيت اللحظة التي يراها من داخل النور والظل والعتمة".

بدأ سعد يكن (1950) الرسم سنة 1964، لم يكن قد تجاوز الرابعة عشرة من عمره. كان خرّيج مركز الفنون التشكيلية في حلب، وكان يرسم بخط قوي وقاس، غير خاضع للمنظور أو التشريح، خط خاص به، وقد انتسب يكن إلى كلية الفنون الجميلة، وحصل على الترتيب الأول، كما يقول، في المسابقة التي تجريها الكلية، لكنه لم يتابع دراسته، ربمّا هي الأوضاع المادية، وربمّا لأنّه وجدها لا تعلمه شيئاً.



استدار يكن إلى داخله، والتمس فيه المأساة والفاجعة، وقد أقام معرضين بالأسود والأبيض، بين عامي 1970 و1971. ثم تابع تحصيله العلمي، كان لا بدّ من التعرف إلى حياة الفنانين ودارسة سيرتهم الذاتية، والتعرّف إلى الكتّاب والشعراء الذين يلامسون موقفه الذاتي من الأشياء والعالم. وقد تطوّر مفهوم القراءة عنده؛ فأصبح مرتبطاً بالموقف من الإنسان، وتعمّق في دراسة ابن عربي والحلاج والسهروردي، وحوّل إشراقاتهم إلى أعمال تشكيلية تمثّل أفكارهم وتلخص حيواتهم في عدّة لوحات.

يقول سعد يكن: "عندما قدمت معرضاً عن جلجامش، عدت إلى قراءة الأساطير، ثم أعدت توظيف الملحمة بإحساسي الداخلي لأقدمها ضمن معطياتها الثقافية والفكرية برؤيا ذاتية. وعندما رسمت البحر والصيادين وشباكهم، كنت أتلمس رواية "الشيخ والبحر" لهمنغواي. ولي تجربة بالتعرف إلى عدة شعراء من خلال نتاجهم الشعري، وقدمتهم في لوحات عكست حالات شعرية، كنزيه أبو عفش وعلي الجندي، وشخصيات روائية كوليد إخلاصي وعبد السلام العجيلي".
مع هذه البدايات، راح الفنان ينتقل من المرحلة البسيطة في الشكل والإمكانات إلى المرحلة المعقّدة من حيث الدوافع والرغبات لخوض تجربة متميّزة عن الآخرين.

يخوض الفنان معركة الصراع وإثبات الوجود؛ فشارك في المعارض وعقد الندوات، وتعرّض للنقد والهجوم، لكنه ظل مستمراً وثابتاً. في لوحاته سنجد قرّاء الصحف وقد أداروا ظهورهم إلى الطاولة وهم يقرؤون، والسياسيين يتحدثون معاً بلغة واحدة، لا يجدون لغة بينهم سوى لغة الصراخ وإلغاء الآخر، المغني في وسط الحلبة يغني لنفسه، والجوقة في وادٍ آخر.. العشاق متنافرون والأصدقاء يكيدون لبعضهم بعضاً، وكلّ يغني على ليلاه.. عشاق فاشلون، أزواج تعساء، رجال محرمون يلهثون خلف بائعات الهوى.. وهكذا تمضي السهرة إلى آخرها، فيحمل المتعبون أثقالهم ونعاسهم، ويبقى سعد يكن وحيداً مع الكراسي وما بقي من سهرة البارحة ليملأ اللوحة في اليوم التالي بهم.

أيُّ شيء هذا الذي يحيط بالفنان وهو يأخذ ذاكرته معه، ذلك الذي يتجسد في أشباه البشر الذين دخلوا المدينة وصاروا من نسيجها، بائع الخيطان وهو يلفّ نفسه بوحدته وخيطانه، بائع الصحف الذي يسحب رجليه على تعبه وشقاء يومه، العروس التي تحلم بقلب كبير، والعريس الذي يحلم الحلم ذاته، ومع ليلة الزفاف تتكسّر الأحلام وتجهض الأمنيات، وكأنما كل شيء إلى هباء. وحتى عندما عاد إلى التاريخ والأسطورة والأيقونة؛ فإنه أكسبها معاصرة وحداثة، فإذا بها تحمل مشكلات الإنسان المعاصر. وقد تكون لوحة صبري مدلّل، شيخ الطرب في حلب، من أعقد اللوحات وأكثرها حداثة، ربمّا لأن يكن رأى فيه حلب المدينة العريقة بأصالتها، فخلّدها فيه وخلّده فيها. إنه يلجأ في أعماله إلى تحوير الأشخاص، وهذا يكون للتأكيد على دراما انفعالية معينة، وحين يتناول المرأة في عمل ما، فالأقرب أن تكون مستلبة وخانعة، مستكينة، تحت ظل رجل ليشكل الواجهة الأولى.. إن الكلام النظري عن دور المرأة في المجتمع شيء، وتلّمس واقعها ومعاناتها شيء آخر، إنّه يقدمها في لوحات خاصة تعكس أزمتها، متراوحة بين الوحدة والعزلة، وبين انسجامها مع الرجل في لحظات متبادلة، تكون المرأة في وادٍ والرجل في وادٍ آخر، إنهما يجتمعان في المكان، ولكنها منفصلان نفسياً بشكل نهائي. في أعماله عن "الطوفان"، نجد الطبيعة في حالة امتزاج (الماء مع التراب) وهما يرمزان إلى بداية الخلق ونهايته، والمرأة كذلك. 

سعد يكن نسيج وحيد يطير خارج السرب، ليشكّل مدرسة فنية متكاملة، وبحسه الجمالي راح يعيد صياغة الإنسان، كما يحب أن نراه: إنه يسكن فوق الجدار، يراقبنا في حركتنا اليومية، يقدمنا في صور متلاحقة، كما الحقيقة في تجليها الأسمى والأعمق.
دلالات
المساهمون