سعدي بلبل ينحت فلسطين

19 يوليو 2016
تعلم الحرفة في الثامنة من عمره (محمد الحجار)
+ الخط -
ليست النجارة بالأدوات التقليدية والأخشاب الطبيعية مجرد مهنة بالنسبة للفلسطيني سعدي بلبل. هي حرفة عمرها قرن ونصف القرن  في عائلته، التي تسعى إلى الحفاظ على تراث البلاد

ليست النجارة بالأدوات التقليدية والأخشاب الطبيعية مجرد مهنة بالنسبة للفلسطيني سعدي بلبل. هي حرفة عمرها قرن ونصف القرن  في عائلته، التي تسعى إلى الحفاظ على تراث البلاد

في حي الشجاعية شرق مدينة غزة، وتحديداً في محلة الشعف، ما زال الحاج سعدي بلبل (71 عاماً) يحتفظ بحرفته التراثية في نحت الخشب وصنع الأدوات المختلفة منه. وهي أدوات لطالما كانت حاضرة في البيوت الفلسطينية القديمة، بل باتت تراثاً وما زال بعض البيوت يحتفظ بها.

في دكانه الصغير بالقرب من بيته، يجد بلبل متعته في صنع هذه الأدوات. تملأ الدكان مجموعة من الأخشاب المقطوعة من شجر الليمون والبرتقال، هي التي اعتمد عليها الأجداد الفلسطينيون أكثر من أيّ أنواع أخرى، كونها تتحمل الضغط وتتمتع بمتانة كبيرة، كما أنّها تتميز بالنظافة. يقول بلبل لـ"العربي الجديد": "عمل والدي وجدي في هذه الحرفة. خبرة العائلة فيها أكثر من 150 عاماً، أي منذ العهد العثماني. كان لأجدادي محلات في سوق الشجاعية الوحيدة في القطاع في ذلك الزمن".

يستذكر بلبل، الذي عاصر زمن النكبة الفلسطينية وما بعدها، أنّ غالبية الأدوات كانت لأغراض عملية في حياة الإنسان الفلسطيني، خصوصاً لتلبية حاجات الفلاح والبدوي. كان المحراث والمذراة من أهم الأدوات. والأخيرة تساعد المزارع في قص التبن والقصب وفصل الحبوب، قبل اختراع آلات الفرز الأوتوماتيكية. أكثر منطقتين كانتا تقبلان على أدوات محلات العائلة هما غزة وبئر السبع.

بدأ بلبل وهو في الثامنة من عمره يتعلم نحت وتصميم الأدوات الخشبية. كان بعد انتهائه من دوامه المدرسي يتجه إلى مكان عمل والده ليساعده ويتعلم منه، حتى أتقن الحرفة شيئاً فشيئاً. يقول: "أجد متعة في التعامل مع التراث في عملي. حتى أنّني في أوقات كثيرة لا أجني الكثير، لكن أجد روحي معلقة بين الأخشاب. فنحن نكتب تاريخ فلسطين عبر حِرفها".


يستخدم بلبل في صنع منتجاته آلات يدوية مختلفة كالفأرة لحفّ الخشب، ويصل عمرها إلى 150 عاماً، حتى أنّ أجزاء منها ذابت لكثرة استخدامها. والفريزة (آلة تقطيع) التي يبلغ عمرها 80 عاماً، بالإضافة إلى المطرقة والمبرد. والأخير يعتبر من الأدوات الحديثة.

ينوّه إلى أنّ حرفة النجارة اليدوية تكاد تنقرض بسبب عزوف الكثير من أصحابها عن العمل، مع كبر سنهم وموت بعضهم ومرض الآخرين. يعتبر الوحيد، من بين هؤلاء، الذي ما زال يمارس نشاطه. وهو من آخر صانعي المنتجات من الأخشاب الطبيعية في غزة. يفسّر: "الأدوات الخشبية في الأسواق في الغالب صينية الصنع، وتحتوي على مادة الميلامين وهي مادة كيميائية غير صحية، على عكس الأدوات القديمة، التي كلّها من الطبيعة".

يصنع أشكالاً مختلفة من الأخشاب الطبيعية، مثل العصيّ بجميع أشكالها والشوبك الخاص بمدّ العجين، والمدقات بأحجام مختلفة، والمحراث، والمذراة، ومهباج القهوة الخاص بسحق حبوب البنّ، والعديد من المنتجات الأخرى. وتختلف أسعار السلع لديه بحسب الجهد الذي بذله في صنعها. أما زبائنه فهم المهتمون بالأدوات التراثية من جميع محافظات القطاع.

يمثل عام النكسة 1967 بداية نكسة حرفتهم، بعد خضوع قطاع غزة للاحتلال الصهيوني. بدأ الاحتلال يتعمد إدخال الأدوات التجارية كفرض اقتصادي على الغزيين. تحولت حرفته بعد ذلك في اتجاه آخر، جعلها محددة في المجال السينمائي، حيث كان يصنع جميع الأدوات اليدوية والأدوات التاريخية، مثل بيوت الشعر وأشكال البيوت القديمة، لبعض المشاهد المصورة. ويشير إلى أنّه شارك في صنع بعض أدوات الفيلم الأميركي الشهير "رامبو 3" للممثل سيلفستر ستالوني عام 1988 الذي صورت مشاهد منه في فلسطين المحتلة.

يشير إلى أسباب أخرى ساعدت في اندثار الحرفة، منها عوامل التطور التكنولوجي، فقد بات النجارون يستخدمون الآلات الحديثة في المصنوعات الخشبية، كما توجهت الناس إلى الأدوات الجاهزة من دون النظر إلى قيمتها. لكنّ عدداً من الناس ما زالوا يقدّرون ما يصنعه كما يقول، خصوصاً سكان الأحياء الشعبية. يقول: "ما زال العديد من أصحاب الحرف والصناعات القديمة متمسكين بها بالرغم من كبر سنهم، رغبة منهم في الحفاظ على التراث الفلسطيني القديم وأصالة الماضي. ومنهم من ورث وعلّم الحرفة لأبنائه وأحفاده من أجل إتقانها وإحيائها من جديد".

تجدر الإشارة إلى أنّ الصناعات التقليدية التراثية في فلسطين مقسومة إلى عدة فروع رئيسية، اتفق عليها المؤرخون عبر الزمن. منها صنع الخزف، والزجاج اليدوي التقليدي، والفخار، والتطريز اليدوي، والبسط والسجاد اليدوي، ومنتجات خشب الزيتون، ومنتجات الصدف، والخيزران، والشمع، وهي صناعات تمتد إلى أيام الكنعانيين.