سطوة حزب الله الاجتماعية: مرحلة "المجتمع الطاهر"
تلاحقت أحداث التضييق الاجتماعي الذي يحاول حزب الله، أو محسوبون عليه ومقرّبون منه، فرضه على الناس في مناطق مختلفة من جنوب لبنان. في غضون أقل من أسبوعين، توالت حوادث المسبح الشعبي في بلدة عيترون (قضاء بنت جبيل) والتضييق على مقهىً للإنترنت والألعاب الإلكترونية في جبشيت (قضاء النبطية)، إضافة إلى سجالاتٍ مختلفةٍ، قامت حول كلية العلوم في فرعها الخامس في مدينة النبطية، حيث يهدّد طلابٌ محسوبون على الحزب الطالبات "غير المحتشمات" ويتوعّدوهنّ بـ "تربيتهنّ". وبمعنى آخر، بفرض الاحتشام عليهن، بالإضافة إلى التشهير وإثارة الفضائح، أو ما يعدّه هؤلاء "فضائح أخلاقية". أحدثت هذه الوقائع الثلاث ضجة كبيرة على مواقع التواصل الاجتماعي، لكن الواقع يقول إنّ السلطات المعنيّة لم تتدخّل لحلّ الخلافات، ولا القوى السياسية أولتها اهتماماً كبيراً. فكانت النتيجة أن تسير الأمور بما تريده سلطة الأمر الواقع، أي حزب الله أو المحسوبون عليه سياسياً واجتماعياً. فتم تحديد دوامين، واحد للنساء وآخر للرجال، لمسبح عيترون، وتقلّص الحضور الشبابي في مقهى جبشيت، واستمرّت التهديدات والمواقف الاجتماعية المتشدّدة في كلية العلوم من دون أي رادع من إدارة الكلية أو الجامعة اللبنانية المفترض أن تكون قادرةً على المحافظة على المبادئ والحريات العامة، وتعميمها على الطلاب.
يمكن لهذه القضايا الثلاث أن تظهر واقع الأمور في مناطق نفوذ حزب الله، الذي على الأقل غضّ الطرف عن ممارسات فرض الخناق على المجتمع المحيط بالحزب، إن لم يكن قد أدار هذه المعارك، وسمح بها تحت عناوين عدة، أبرزها "الأخلاق" و"القيم". لكن اللافت أنّ ذلك كله يحدث وسط صمتٍ كاملٍ من الأطراف والشخصيات المتخاصمة مع الحزب في الجنوب. ويأتي هذا الصمت، إما انسجاماً مع هذه "الذرائع الأخلاقية"، لكون هذه الأطراف توافق عليها، أو نتيجة الخوف، الذي تمكّن الحزب من زرعه في بيئته، طوال العقود الماضية، تجاه أي معترض، أكان بالنبذ الاجتماعي أو التهديد أو حتى النبذ الفعلي، إلى خارج القرى والمناطق حيث نفوذ حزب الله وسلطته.
مرحلة "المجتمع الطاهر"
يمكن القول إنّ حزب الله، وبفعل هذه الممارسات والأسباب التي يتسلّح بها، ينتقل من مرحلة "المال النظيف" إلى مرحلة "المجتمع الطاهر" أو "المجتمع العفيف"، بحسب ما يقول أحد معارضيه في الجنوب.
سوّق الحزب، قبل عشرة أعوام ومع انطلاق الأزمة السياسية في لبنان باغتيال رئيس الحكومة
الأسبق، رفيق الحريري، في فبراير/ شباط 2005، نظرية "المال النظيف" لتبرير كل الدعم الذي يحصل عليه من إيران، فيضع بذلك المال السياسي الخارجي الذي يتلقّاه خصومه في خانة "المال الوسخ" أو "مال النفط والغاز" المندرج في إطار دعم مشاريع "ضرب المقاومة" في لبنان، بحسب أدبياته. ويظهر أنّ مرحلة "المجتمع الطاهر" أو "العفيف" قد بدأت، وقد سبق للأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، أن سوّق هذه المرحلة بعباراتٍ عديدة، أبرزها يوم قال لجمهوره ومناصريه، أي للطائفة الشيعية، إنهم "أشرف الناس وأكرم الناس وأطهر الناس".
ويتماشى هذا الواقع مع حقيقة أن حزب الله يرى نفسه لاعباً إقليمياً في المنطقة، بحسب ما يقول نصر الله أيضاً، وما يروّجه مسؤولو حزب الله وماكيناته الإعلامية، انطلاقاً من المشاركة الفاعلة في الحرب السورية وحربي اليمن والعراق، والتهديدات التي يطلقها نصر الله لدول الخليج العربي من البحرين إلى السعودية. وفي هذا السياق، لا بد من القول إنّ حزب الله، بوصفه قوّة إقليمية، يتحكّم بلبنان الذي يشكّل حديقته الخلفية. وتثبت الوقائع ذلك، من خلال الإحكام بالحياة السياسية ومسارها والشغور الرئاسي الذي يفرضه الحزب منذ مايو/ أيار 2014، والسيطرة الأمنية وفي التحكّم بهذه الحديقة الخلفية، أي مناطق النفوذ المطلق لحزب الله بين الجنوب والبقاع (شرقي لبنان) التي يتعامل معها الحزب قاعدةً فعلية له، على المستويات الشعبية والسياسية والاجتماعية. وطالما أنّ حزب الله بات لاعباً إقليمياً لن يسمح بأي مسّ في هذه القاعدة، أو أي حراك داخلها، قد يعكّر صفو المواقف والخطابات والمعارك التي يخوضها الحزب على مستوى المنطقة.
مظاهر تاريخية لـ "الخناق الاجتماعي".
بدأ مشروع "المجتمع الطاهر" و"أشرف الناس" مع حزب الله، منذ أكثر من عقدين. فإذا كان مشروع إقامة الدولة الإسلامية قد همّش أجندة حزب الله السياسية والإعلامية عقوداً، نتيجة الظروف السياسية، إلا أنّ نائب الأمين العام للحزب، الشيخ نعيم قاسم، يعود ويذكّر بهذا المشروع بين فترة وأخرى. ومن جديد المواقف التي تندرج في هذا السياق، صدرت مطلع العام الحالي، 2016، حين أكّد في مقابلة صحافية، على أنّ "حزب الله لا يزال يؤمن بإقامة الدولة الإسلامية في لبنان".
بدأت عملية تأسيس "المجتمع الطاهر" منذ تحكّم حزب الله بمربّعاته الأمنية في بيروت وغيرها. وبعد انتهاء الحرب، ومعها انتهاء مراحل ترحيل الخصوم السياسيين من هذه المناطق، أو حتى تصفيتهم اجتماعياً، باشر الحزب في وضع قواعده الاجتماعية بالإكراه حيناً والتودّد حيناً آخر. فلزم مثلاً، ولدعم المدّ الاجتماعي والصورة الاجتماعية المحيطة بالحزب، أن يُدفع أحياناً، بدلٌ ماديٌّ شهريٌّ لكل امرأة سافرة "تتوب"، وتلبس الحجاب. وخدمة للنمط الاجتماعي نفسه، تم في تسعينيات القرن الماضي "تطهير" مناطق نفوذ حزب الله في بيروت ومحيطها من الكحول، وبيعه والتداول به. وامتدّت هذه الظاهرة بعد سنوات قليلةٍ، لتطاول مثلاً الحزام الاجتماعي الثاني للضاحية الجنوبية (المربع الشعبي والأمني لحزب الله على مدخل بيروت الجنوبي)، فخرجت سلطة حزب الله ونفوذه إلى خارج هذا المربع، وبدأت تطاول المناطق المختلطة تحديداً مع المسيحيين، في مناطق الشويفات وكفرشيما والحدث، ووصولاً إلى عين الرمانة. وكانت أماكن بيع الكحول متنفساً لمتذوّقيها من أبناء الضاحية، فبات على هؤلاء الخروج منها، والتوجه إلى المناطق ذات الأغلبية المسيحية، لشراء حاجياتهم منها. وهو ما يدلّ، في الأساس، على أنّ حزب الله لم يتمكّن من فرض رغبته على الناس، ولو أنّ ذلك جاء على حساب حريّتهم وخياراتهم وراحتهم في أحيانٍ كثيرة. كما أنه، منذ تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، عام 2000، يُحاول حزب الله على الدوام منع بيع الكحول في بعض القرى المحسوبة عليه، ليصطدم بواقع شعبي رافض بالشكل والمضمون. وكان أبرز حادثتين، في هذا الإطار، ما حدث في بلدتي كفرمان (قضاء النبطية) وحولا (قضاء مرجعيون)، حيث لا تزال فيهما قوّة وازنة من الشيوعيين السابقين والحاليين، أو حتى من المعارضين لحزب الله سياسياً واجتماعياً. فعجز حزب الله عن تكريس سطوته مرة أخرى، ولو أنه نجح في إقفال بعض صالات الأفراح والمناسبات، التي تقدّم الكحول لزبائنها، أو فرض عليها تعديلاتٍ على قوائمها.
وفي هذا الإطار أيضاً، من اللافت أن مدينة صور الجنوبية تنعم بحريةٍ كبيرةٍ على المستوى
الاجتماعي، أكان في شطّها الرملي الذي يستضيف الشبان والنساء، أو بيع الكحول علناً، إضافة إلى نوادي السهر وحفلات الغناء. وذلك لأن نَفَس المدينة كان أساساً في حالة انفتاح اجتماعي، نتيجة الاختلاط الطائفي، إضافة إلى أنها مدينةٌ بَحرية، وتعزّز لاحقاً بفعل وجود قوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في الجنوب (يونيفيل) فيها. كما تعيش عائلات عديدة من الموارد الاقتصادية الناتجة عن الحركة السياحية فيها. ونتيجة ذلك، ليس مستغرباً أن يكون النواب الأربعة، الذين يمثلون قضاء صور في البرلمان، محمد فنيش ونواف الموسوي (كتلة الوفاء للمقاومة، حزب الله) وعلي خريس وعبد المجيد صالح (كتلة التنمية والتحرير، حركة أمل برئاسة رئيس البرلمان، نبيه بري)، جميعهم من قرى القضاء، وليس من المدينة نفسها. وهنا لا بد من الإشارة إلى أن محال السهر وبيع الكحول في صور تعرّضت في السنوات الاخيرة إلى موجةٍ من التفجيرات، ولم تتعرّف الأجهزة الأمنية على مفتعليها، على الرغم من اكتشاف مخططات معظم "الأعمال الأمنية"، التي قام بها الإسلاميون المقربون من تنظيم القاعدة.
أبواب أخلاقية ودينية
من ضمن الممارسات التي قام بها حزب الله في مناطق جنوبية مختلفة، توزيع مكبّرات الصوت في البلدات، وقطع التيار الكهربائي عن المنازل، بغية بث مجالس عاشورائية أو خطب دينية، في محاولة لفرض هذه الشعائر على الناس. لكن الحزب تمكّن من تكريس سيطرته الفعلية على هذه المناطق، بفعل الحركة الكشفية والنوادي الرياضية والجمعيات، إضافة إلى تعاظم دوره السياسي والإعلامي منذ لحظة تحرير الجنوب. فجاءت هذه الحركات على المستوى الاجتماعي، لتكرّس الانتصار السياسي، وتؤطّره بشكل ممنهج، بدءاً من المدارس والتعليم، وصولاً إلى تحوّل الحزب ومؤسساته إلى قوّة اقتصادية كبيرة. وهو ما له دور أساسي في مناطق غابت عنها الدولة والتنمية منذ الاحتلال الإسرائيلي لها عام 1978. فبات حزب الله، بحسب الأرقام والدراسات الاقتصادية، ثاني أكبر مشغّل في لبنان بعد الدولة نفسها. ويتم تقدير هذه القوة بما يقارب 35 في المئة من الطائفة الشيعية (أكثر من مليون نسمة). وقياس تأثير هذه الشريحة على البيئة الشيعية يكون مضاعفاً نتيجة الروابط الاجتماعية والانتماءات السياسية، خصوصاً أنّ أكثر من خمسين في المائة من أبناء الطائفة، يستفيدون من المؤسسات التابعة للحزب على مستويات الطبابة أو التعليم.
ولتعزيز هذه القوة الاجتماعية، عمل الحزب، منذ أكثر من عقد، على توزيع رجال الدين على
القرى الجنوبية، وأدار هؤلاء حلقاتٍ دينيةً ونشاطاتٍ اجتماعيةً ملائمة لأهواء الحزب وتوجهاته. وزادت قوّته وسيطرته على هذه البيئة، وتم اختلاق أجواء اجتماعية ودينية جديدة على هذه المناطق، أبرزها ما يظهر اليوم من "منع الاختلاط بين الجنسين"، وهو ما لم تشهد مثيله قرى الجنوب تاريخياً، المعروفة بانفتاحها. لا بل إنّ بعض الوثائق والمجلات العائدة إلى عام 1952 تؤكد على أنّ المدرسة الجعفرية في الجنوب (مدرسة دينية)، كانت تدرّس البنات الجنوبيات رقص الباليه والعزف على الآلات الموسيقية. وهو ما يمكن أن يفتح النقاش أيضاً حول النمط الديني، الذي يستحضره حزب الله من إيران، وليس من المدارس الأخرى التي تربّت عليها الطائفة الشيعية، تحديداً بعد وفاة آخر المرجعيات الشيعية غير المنضوية تحت جناح الحزب، السيد محمد حسين فضل الله، وقبله رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، الشيخ محمد مهدي شمس الدين. فكان لافتاً، خلال عيد الفطر الماضي، منع مقلّدي فضل الله من الصلاة في مسجد بلدة كوثرية السياد (قضاء صيدا) لتعارض موعد العيد مع اليوم الذي حدّدته المراجع الدينية في إيران.
يمكن لهذه القضايا الثلاث أن تظهر واقع الأمور في مناطق نفوذ حزب الله، الذي على الأقل غضّ الطرف عن ممارسات فرض الخناق على المجتمع المحيط بالحزب، إن لم يكن قد أدار هذه المعارك، وسمح بها تحت عناوين عدة، أبرزها "الأخلاق" و"القيم". لكن اللافت أنّ ذلك كله يحدث وسط صمتٍ كاملٍ من الأطراف والشخصيات المتخاصمة مع الحزب في الجنوب. ويأتي هذا الصمت، إما انسجاماً مع هذه "الذرائع الأخلاقية"، لكون هذه الأطراف توافق عليها، أو نتيجة الخوف، الذي تمكّن الحزب من زرعه في بيئته، طوال العقود الماضية، تجاه أي معترض، أكان بالنبذ الاجتماعي أو التهديد أو حتى النبذ الفعلي، إلى خارج القرى والمناطق حيث نفوذ حزب الله وسلطته.
مرحلة "المجتمع الطاهر"
يمكن القول إنّ حزب الله، وبفعل هذه الممارسات والأسباب التي يتسلّح بها، ينتقل من مرحلة "المال النظيف" إلى مرحلة "المجتمع الطاهر" أو "المجتمع العفيف"، بحسب ما يقول أحد معارضيه في الجنوب.
سوّق الحزب، قبل عشرة أعوام ومع انطلاق الأزمة السياسية في لبنان باغتيال رئيس الحكومة
ويتماشى هذا الواقع مع حقيقة أن حزب الله يرى نفسه لاعباً إقليمياً في المنطقة، بحسب ما يقول نصر الله أيضاً، وما يروّجه مسؤولو حزب الله وماكيناته الإعلامية، انطلاقاً من المشاركة الفاعلة في الحرب السورية وحربي اليمن والعراق، والتهديدات التي يطلقها نصر الله لدول الخليج العربي من البحرين إلى السعودية. وفي هذا السياق، لا بد من القول إنّ حزب الله، بوصفه قوّة إقليمية، يتحكّم بلبنان الذي يشكّل حديقته الخلفية. وتثبت الوقائع ذلك، من خلال الإحكام بالحياة السياسية ومسارها والشغور الرئاسي الذي يفرضه الحزب منذ مايو/ أيار 2014، والسيطرة الأمنية وفي التحكّم بهذه الحديقة الخلفية، أي مناطق النفوذ المطلق لحزب الله بين الجنوب والبقاع (شرقي لبنان) التي يتعامل معها الحزب قاعدةً فعلية له، على المستويات الشعبية والسياسية والاجتماعية. وطالما أنّ حزب الله بات لاعباً إقليمياً لن يسمح بأي مسّ في هذه القاعدة، أو أي حراك داخلها، قد يعكّر صفو المواقف والخطابات والمعارك التي يخوضها الحزب على مستوى المنطقة.
مظاهر تاريخية لـ "الخناق الاجتماعي".
بدأ مشروع "المجتمع الطاهر" و"أشرف الناس" مع حزب الله، منذ أكثر من عقدين. فإذا كان مشروع إقامة الدولة الإسلامية قد همّش أجندة حزب الله السياسية والإعلامية عقوداً، نتيجة الظروف السياسية، إلا أنّ نائب الأمين العام للحزب، الشيخ نعيم قاسم، يعود ويذكّر بهذا المشروع بين فترة وأخرى. ومن جديد المواقف التي تندرج في هذا السياق، صدرت مطلع العام الحالي، 2016، حين أكّد في مقابلة صحافية، على أنّ "حزب الله لا يزال يؤمن بإقامة الدولة الإسلامية في لبنان".
بدأت عملية تأسيس "المجتمع الطاهر" منذ تحكّم حزب الله بمربّعاته الأمنية في بيروت وغيرها. وبعد انتهاء الحرب، ومعها انتهاء مراحل ترحيل الخصوم السياسيين من هذه المناطق، أو حتى تصفيتهم اجتماعياً، باشر الحزب في وضع قواعده الاجتماعية بالإكراه حيناً والتودّد حيناً آخر. فلزم مثلاً، ولدعم المدّ الاجتماعي والصورة الاجتماعية المحيطة بالحزب، أن يُدفع أحياناً، بدلٌ ماديٌّ شهريٌّ لكل امرأة سافرة "تتوب"، وتلبس الحجاب. وخدمة للنمط الاجتماعي نفسه، تم في تسعينيات القرن الماضي "تطهير" مناطق نفوذ حزب الله في بيروت ومحيطها من الكحول، وبيعه والتداول به. وامتدّت هذه الظاهرة بعد سنوات قليلةٍ، لتطاول مثلاً الحزام الاجتماعي الثاني للضاحية الجنوبية (المربع الشعبي والأمني لحزب الله على مدخل بيروت الجنوبي)، فخرجت سلطة حزب الله ونفوذه إلى خارج هذا المربع، وبدأت تطاول المناطق المختلطة تحديداً مع المسيحيين، في مناطق الشويفات وكفرشيما والحدث، ووصولاً إلى عين الرمانة. وكانت أماكن بيع الكحول متنفساً لمتذوّقيها من أبناء الضاحية، فبات على هؤلاء الخروج منها، والتوجه إلى المناطق ذات الأغلبية المسيحية، لشراء حاجياتهم منها. وهو ما يدلّ، في الأساس، على أنّ حزب الله لم يتمكّن من فرض رغبته على الناس، ولو أنّ ذلك جاء على حساب حريّتهم وخياراتهم وراحتهم في أحيانٍ كثيرة. كما أنه، منذ تحرير الجنوب من الاحتلال الإسرائيلي، عام 2000، يُحاول حزب الله على الدوام منع بيع الكحول في بعض القرى المحسوبة عليه، ليصطدم بواقع شعبي رافض بالشكل والمضمون. وكان أبرز حادثتين، في هذا الإطار، ما حدث في بلدتي كفرمان (قضاء النبطية) وحولا (قضاء مرجعيون)، حيث لا تزال فيهما قوّة وازنة من الشيوعيين السابقين والحاليين، أو حتى من المعارضين لحزب الله سياسياً واجتماعياً. فعجز حزب الله عن تكريس سطوته مرة أخرى، ولو أنه نجح في إقفال بعض صالات الأفراح والمناسبات، التي تقدّم الكحول لزبائنها، أو فرض عليها تعديلاتٍ على قوائمها.
وفي هذا الإطار أيضاً، من اللافت أن مدينة صور الجنوبية تنعم بحريةٍ كبيرةٍ على المستوى
أبواب أخلاقية ودينية
من ضمن الممارسات التي قام بها حزب الله في مناطق جنوبية مختلفة، توزيع مكبّرات الصوت في البلدات، وقطع التيار الكهربائي عن المنازل، بغية بث مجالس عاشورائية أو خطب دينية، في محاولة لفرض هذه الشعائر على الناس. لكن الحزب تمكّن من تكريس سيطرته الفعلية على هذه المناطق، بفعل الحركة الكشفية والنوادي الرياضية والجمعيات، إضافة إلى تعاظم دوره السياسي والإعلامي منذ لحظة تحرير الجنوب. فجاءت هذه الحركات على المستوى الاجتماعي، لتكرّس الانتصار السياسي، وتؤطّره بشكل ممنهج، بدءاً من المدارس والتعليم، وصولاً إلى تحوّل الحزب ومؤسساته إلى قوّة اقتصادية كبيرة. وهو ما له دور أساسي في مناطق غابت عنها الدولة والتنمية منذ الاحتلال الإسرائيلي لها عام 1978. فبات حزب الله، بحسب الأرقام والدراسات الاقتصادية، ثاني أكبر مشغّل في لبنان بعد الدولة نفسها. ويتم تقدير هذه القوة بما يقارب 35 في المئة من الطائفة الشيعية (أكثر من مليون نسمة). وقياس تأثير هذه الشريحة على البيئة الشيعية يكون مضاعفاً نتيجة الروابط الاجتماعية والانتماءات السياسية، خصوصاً أنّ أكثر من خمسين في المائة من أبناء الطائفة، يستفيدون من المؤسسات التابعة للحزب على مستويات الطبابة أو التعليم.
ولتعزيز هذه القوة الاجتماعية، عمل الحزب، منذ أكثر من عقد، على توزيع رجال الدين على