"هل قابلت اللواء السيسي.. لا.. إذن يجب أن تقابله.. ولا بد أن يرافقك أحدنا"، هكذا تحدث ياسر برهامي، نائب رئيس الدعوة السلفية بالإسكندرية والرجل الأقوى فيها، إلى أحد مرشحي الرئاسة خلال جلسة مناقشة أفكار المرشح وبرنامجه، وهي الجلسات التي عقدتها الدعوة السلفية ومعظم الهيئات والأحزاب مع مرشحي الرئاسة في العام 2012.
يشي حديث برهامي، المنقول عبر أكثر من مصدر متطابق، بالعلاقة الحميمية التي نشأت بين الرجلين (السيسي وبرهامي) منذ الثورة حتى فوز الأول بالرئاسة، هذه العلاقة التي يرى البعض أنها شهدت فترات صعود وهبوط وشد وجذب لكنها آلت في النهاية إلى نوع من الفتور أو بتعبير البعض، انقلاب من السيسي على برهامي.
لم تبدأ علاقة السيسي ببرهامي كعلاقة خاصة منفردة بل أتت في سياق العلاقة الوطيدة للمجلس العسكري مع القيادات الإسلامية وبشكل خاص اللواء السيسي وقتها، الذي علمنا في ما بعد أنه تعمّد توطيد العلاقة مع كافة القوى الفاعلة والشخصيات المؤثرة منذ الثورة وحتى الانقلاب.
من هنا تعمّد السيسي نسج خيوطه حول كل القوى والشخصيات، خاصة الإسلامية. ينقل لنا أحد المصادر واقعة ذات دلالة، حدثت في بيت صديق مشترك لأحد كبار شيوخ السلفيين في القاهرة. يقول الرواي "خلال نقاش بين الشيخ السلفي القاهري، وشخصية سياسية كبيرة، حول مستقبل مصر والحركات الإسلامية، قال الشيخ القاهري لضيفه، نفس جملة برهامي السكندري: هل قابلت اللواء السيسي.. لا بد من مقابلته"، بحث الشيخ القاهري عن رقم هاتف السيسي، لم يجده، فاتصل بالشيخ محمد حسان، للحصول على الرقم.
اقرأ أيضاً: منظرو الجماعات الإسلامية..من حروب البرغوث إلى إدارة التوحش
حازم أبو إسماعيل.. نقطة التحوّل
لا يمكننا الجزم بدقة، عند أي تاريخ بدأت علاقة السيسي ببرهامي تتعمّق وتأخذ مسارًا مختلفًا، عن علاقة السيسي بباقي النخب الإسلامية والسياسية والثورية، لكن يمكن اعتبار الإعلان عن ترشح الشيخ حازم صلاح أبو إسماعيل للرئاسة من التواريخ الفاصلة في تلك العلاقة.
تسبب أبو إسماعيل في حالة ارتباك شديد في معسكر الجماعات الإسلامية، إذ كان خطاب حازم أبو إسماعيل، خارجا عن كل سياقات خطابات قيادات الإسلاميين، وأحدث لهم ارتباكًا شديدًا بشكل خاص في علاقتهم مع المجلس العسكري والوفود الأجنبية المتلاحقة من الغرب والخليج.
كانت الخطورة، ليس فقط في إرباك المشهد وتفجير الموقف، بل في حصد حازم لثمار جهد تلك القيادات لعقود طويلة، وهو ما عبّر عنه أحد كبار الشيوخ بقوله "شقى عمري وراس مالي حازم هياخده على الجاهز".
هذه الجملة الأخيرة، هي التي دفعت برهامي لسرعة إظهار انتقاده لأبو إسماعيل، لأنه يرى أن الحفاظ على الأتباع هو الهدف الأسمى والغاية الأكبر، فبدونهم لا مكان للمشيخة والقيادة والنفوذ والسلطة، وبالطبع التمويل.
لم يكن الصراع على الأتباع وحده هو مشكلة الجماعات الإسلامية وعلى رأسها حازم صلاح أبو إسماعيل والشيخ برهامي، بل الأهم هو اختلاف المنهج وتباين الطريق، فبينما يرى حازم أن المواجهة والصدع بما يراه حقًا هو الأهم، يرى برهامي أن الكمون في مواجهة الظلم هو الطريق الأنسب لتحقيق ما يراه مصالح للدعوة، وهما طريقان لا التقاء بينهما على مر التاريخ.
الأتباع ومنهج التغيير (الإصلاح أم الثورة)، سببان أساسيان لالتقاء السيسي وبرهامي في مواجهة حازم أبو إسماعيل، ولم يجد السيسي أفضل من برهامي، والعكس صحيح، لمواجهة ظاهرة حازم المتصاعدة. ولعل من الأهمية بمكان القول إن أبرز محطات التلاقي بين السيسي وبرهامي هي اتهام حازم بمرض البارانويا (جنون العظمة) والذي اشترك الطرفان في ترويجه بين الأوساط الإسلامية والشعبية والعسكرية.
اقرأ أيضاً: كل الطرق لم تكن تؤدي إلى 3 يوليو
الإخوان وخيرت الشاطر
"مشكلة الهيئة الشرعية أنها تساوينا بأي شيخ لا يملك إلا نفسه"، كثيرا ما تكررت هذه العبارة، على لسان برهامي، عندما يتحدث عن الهيئة الشرعية التي أسسها السلفيون لجمع قيادات العمل الإسلامي بعد الثورة.
الجملة السابقة تؤكد ما ينقله المقربون من برهامي، من أنه يشعر بالغيرة الشديدة من حجم جماعة الإخوان ومكانتها، وهو ما يراه متوفرًا لدى الدعوة السلفية لكنها لا تحظى بنفس المكانة.
ينقل مقربون من برهامي أنه كان يرى في نفسه كخيرت الشاطر (قيادي الإخوان واسع السيطرة والنفوذ) ولكن على مستوى السلفيين، وأنه وخيرت، منوط بهما قيادة التيار الإسلامي ثم قيادة مصر. وهو ما دفعه للانسحاب تدريجيًا من اجتماعات الهيئة وعقد لقاءات منفردة مع الإخوان، بحسب مقربين وقيادات في الهيئة.
لاحقًا وبعد اندلاع الصراع بين الإسلاميين والدعوة السلفية، قالت مصادر إسلامية إن برهامي عمل مع قيادات أمنية على ضرب الهيئة الشرعية وتفكيكها قبل الإنقلاب، وبعد الانقلاب اتضح أن السيسي هو القيادة الرئيسية التي كان برهامي ينسّق مباشرة معها. وعلى الهامش يرى إسلاميون تهافت هذه التهمة لما يعتقدونه من دور سلبي للهيئة الشرعية في إضعاف الثورة وتمكين الحكم العسكري بسبب سذاجة الشيوخ السياسية وتصدّرهم لما لا يحسنونه.
حزب النور ونتائج مفاجئة
جاء تأسيس حزب النور، الذراع السياسي للدعوة السلفية، على غير رغبة برهامي، إذ اضطر برهامي تحت ضغط شباب الدعوة لتأسيس الحزب، وخوفًا من تأثير الحزب على الدعوة السلفية، اختار برهامي للحزب شخصيات ليست من القلب الصلب لأتباعه، مثل د. عماد عبد الغفور رئيس الحزب، د. بسام الزرقا نائب الرئيس، محمد يسري سلامة (رحمه الله) المتحدث الإعلامي، محمد نور المتحدث الإعلامي، بحيث يمكنه التنصل من أخطائهم أو مشاكلهم في أي وقت، أمام الإسلاميين والدولة، وكان لافتًا أن تخرج كل هذه الأسماء من الحزب دفعة وحدة، ما عدا الزرقا. بعدها أراد برهامي السيطرة على الحزب عندما أصبح يمثل رقمًا في الحياة السياسية، على غير ما توقعه.
حزب النور حجم متوهَّم
أدى فوز حزب النور بنحو 22% من مقاعد البرلمان، إلى دهشة كبيرة في الأوساط السياسية والإسلامية المصرية، لكن الباحث في خارطة التيار الإسلامي في مصر قد يقع في خلط شديد، في حال لم يستطع تفكيك خارطة السلفيين وتعامل معهم باعتبارهم كتلة واحدة.
بتفكيك المشهد، تتضح الحقيقية وراء هذه النسبة الكبيرة التي حازها النور على غير ما هو متوقع، إذ ضمت قائمة النور حزب الأصالة الممثل للتيار السلفي في القاهرة، وحزب البناء والتنمية الممثل للجماعة الإسلامية المنتشرة في الصعيد ويميل إليها السلفيون في مواجهة الإخوان، والأهم أن قائمة حزب النور حصلت على دعم كبار الدعاة المستقلين مثل محمد حسان وأبو إسحاق الحوني ومحمد حسين يعقوب وغيرهم من الدعاة المشاهير، وهو ثقل انتخابي كبير يمثّله السلفيون المستقلون.
عند تفكيك تلك الخارطة، يتضح حجم حزب النور الحقيقي والذي يستمد قوته من انتشار الدعوة السلفية في عدة محافظات على رأسها الإسكندرية والبحيرة والمنوفية ومطروح والفيوم، بموازاة ذلك لك أن تتخيّل أن كبار قادة الحزب والدعوة من محافظة الإسكندرية فقط.
لاحقًا تُعلن محافظات بأكلمها الانشقاق عن الدعوة والحزب، مثل مطروح (التي أحرز الإسلاميون 100% من مقاعدها في البرلمان)، والغربية (المعروف عنها أنها الثقل المالي في تمويل الدعوة السلفية)، فضلاً عن مئات الشباب ممّن انشقوا بشكل فردي عن الدعوة السلفية وحزب النور، بعد أن تعرضوا لصدمات متلاحقة من مواقف الحزب وقادة الدعوة السلفية.
الحجم الحقيقي للسلفيين
في أوج تصاعد حالة المواجهة بين المجلس العسكري وشباب الثورة في نهاية 2011، أعلن المجلس دعوته للقوى الشبابية والائتلافات للقاء والتباحث، لكن بشرط أن يرسل كل ائتلاف قائمة أعضائه، وشدد الإعلان على أن الدخول لمن سبق لهم التسجيل فقط.
في الموعد المحدد، كان الدخول لمن يريد دون شرط التسجيل، وجاء بعض لواءات المجلس العسكري لتحية الشباب وإلقاء بعض الكلمات العامة، وهو ما أثار دهشة الجميع، ولم يكن وقتها في أذهان الشباب من تفسير واضح لذلك.
لاحقًا يعلم الجميع أن هدف ذلك اللقاء كان وضع خارطة القوى الشبابية والثورية بعد أن تشابكت وتعقدت وأصبحت عصيّة على الفهم والتحليل، خاصة مع دخول أفواج من العناصر الجديدة لمجال العمل العام دون أن تكون لدى الأجهزة الأمنية معرفة دقيقة بهذه الشخصيات أو بشبكة علاقاتها أو أهدافها أو نقاط قوتها وضعفها، فكان هذا اللقاء من أهم موارد قاعدة بيانات الأجهزة الأمنية والتي استغلتها في تفكيك الثورة بعد ذلك والسيطرة على بعض الشخصيات الفاعلة وتحويلها لأدوات للثورة المضادة.
عبر الربط بين جهل الأجهزة الأمنية بخارطة القوى الشبابية والثورية الجديدة بعد الثورة، يمكن استنتاج وجود نفس حالة الجهل بالخارطة الجديدة للسلفيين ومساحة حزب النور فيها، لكن بعد ذلك ستنكشف الخارطة ومقدار القوة التي تمتع بها برهامي أمام السيسي وهو ما سيؤدي إلى الى تداعيات مقبلة.
الاستفتاء والانتخابات.. أيام الفضيحة
"أنا لديّ 7 مليون سلفي".. هكذا كان برهامي يردد في ثقة منذ ثورة يناير 2011، وهو رقم يثير لعاب الجميع، من الباحثين عن تأييد شعبي وإسلامي في مصر.
في العام 2013، ولدى استحقاق الاستفتاء على الدستور، ظهرت المفاجأة وحصحص الحق، إذ ظهرت اللجان الانتخابية خاوية من الإسلاميين، وقتها انتظر السيسي ونظامه تدفق السلفيين على اللجان لتكون الضربة القاصمة لرافضي الانقلاب وعلى رأسهم الإخوان، ويظهر للعالم أنها ثورة حقيقية، لكن خاب الظن، إلا من بعض الصور المتكلفة لبرهامي وأعضاء الحزب والدعوة السلفية أثناء التصويت، حتى أن برهامي خالف منهجه وطلب من أتباعه تصوير المنقّبات في اللجان الانتخابية، على الرغم من رفضه وضع صور مرشحات حزبه في انتخابات 2012، مستبدلاً إياها بصورة زهرة بدلاً من صورة كل مرشحة. وقتها أدرك الجميع الحقيقة، وانبرت وسائل الإعلام التابعة للسيسي لمهاجمة برهامي والدعوة السلفية بعدما كانت تكتم غيظها.
أما السيسي ونظامه، فقد تساءلوا أين الملايين السبعة من الملتحين والمنقبات والجلاليب البيضاء، والتي كان السيسي يراهن عليها لحسم المعركة بالضربة القاضية.
اقرأ أيضاً: بانتظار المصالحة مع الرئيس المؤمن صدقي صبحي
خسائر برهامي
أدرك السيسي ومن حوله أن برهامي ليس لديه ملايين الأتباع، بل إن العديد من شبابه قد تركوه، إذ انشقت عنه محافظات بأكلمها، وخسر كبار الدعاة السلفيين الذين فضّلوا الصمت وانسحبوا من العمل العام بعد الانقلاب في 2013، وظهرت حقيقة انتماء السلفيين للفكرة وليس للأشخاص، وهو ما بدا في تصويت السلفيين لقائمة حزب النور في مواجهة الإخوان، تأييدا للفكرة السلفية فقط، وليس ولاءً لبرهامي.
انتشرت الروح الثورية بين شباب الإسلاميين، وهو ما يناهض منهج برهامي، الذي ظل لسنوات يزرعه بين أتباعه وفي المجتمع، في حين صمت مؤسس الدعوة السلفية ورئيسها الحقيقي د. محمد إسماعيل المقدم، واعتزل العمل العام، ما شكّل صفعة قوية لبرهامي، تبعها انشقاق الرجل القوي والمنافس الوحيد لبرهامي على زعامة الدعوة السلفية، وهو الشيخ سعيد عبد العظيم وسفره خارج مصر وإعلانه رفض الانقلاب وإدانته لمواقف برهامي.
تصريح الأوقاف
بعدما كان برهامي على اتصال مباشر مع السيسي، ومن يريد من قادة الانقلاب والأجهزة الأمنية من بعد ثورة يناير، عاد به الزمن مرة ثانية إلى أيام مبارك، بل أضل سبيلاً. فأصبح برهامي لا قضية له، بعد الإنقلاب، إلا تصريح الخطابة وساحات العيد والصراع الإعلامي مع صغار "الدولتيين"، وأصبح برهامي يرتجي القبول من مدير إدارة الأوقاف في الإسكندرية ليوافق له ولأتباعه على تصريح الخطابة، وخفت الضوء وتراجع الحلم وتحطمت الأسطورة، وخسر برهامي السلطة، كما خسر جمهور الإسلاميين، والأدهى أنه ما زال يخسر ما دافع عنه وخسر كل شيء من أجله (المنهج والأتباع)، وكأنه يصرخ الآن وحيدًا (راس مالي وشقى عمري).
-------
اقرأ أيضاً:
إعادة تموضع الإخوان (5-5).. تحديات وسيناريوهات المستقبل