سحر شعارات الديمقراطية الزائف

01 فبراير 2016
+ الخط -
مع انطلاقة الثورات العربية قبل خمس سنوات، تصاعدت الحماسة في أوساط مثقفين ومجموعات شبابية متعددة الأطياف، تؤيد التغيير والتحول الديمقراطي. واجتمع هؤلاء على تأييد التحركات التي أرادت التحول نحو نظامٍ أكثر ديمقراطية وتعددية، لكن ما حصل من تعقيدات في المشهد العربي، بعد ذلك، أحدث فرزاً ضرورياً داخل المجموعة المؤمنة بالتحول الديمقراطي، كما حصل إثر الاحتلال الأميركي للعراق، حين أيدت مجموعة من المثقفين المطالبين بالديمقراطية الغزو الأميركي، بحجة إطاحة الاستبداد الممثل بنظام الرئيس صدام حسين، ونشر الديمقراطية من العراق إلى المنطقة كلها. تتكرّر النقاشات حول الديمقراطية والتدخل الخارجي اليوم بصورة أوسع، ومع بعض التغيير، في ظل تزايد التدخلات الخارجية في الساحات العربية، والحروب الأهلية التي تملأ منطقتنا، والحديث عن تلقي "الدعم" لإقامة الديمقراطية في الوطن العربي.
في العقدين الماضيين، بعد نهاية الحرب الباردة وما أفرزته من نتائج وخلاصات، حصلت مراجعاتٌ عند مجموعة من المثقفين العرب، من تياراتٍ مختلفة، أفضت إلى "لبرلة" أفكارهم، ووجدنا نزوعاً نحو الليبرالية عند مجموعات إسلامية ويسارية، تبنت قضية المطالبة بالديمقراطية الليبرالية، وأصبحت هذه القضية قضيتها الرئيسية، وهدف مشروعها السياسي الأول، ومعيارها في تقييم الأحداث والجهات والقوى السياسية، بل وفي تقييم أحداث التاريخيْن، القريب والبعيد، وقد تراجعت قضايا أخرى، مثل الاستقلال الوطني، والعدالة الاجتماعية، إلى مراتب أقل أهميةً عند هذه المجموعات، ما يفسر الموقف الذي اتخذته هذه المجموعات لاحقاً من التدخل الخارجي، تحت عنوان إقامة الديمقراطية ونشرها.
مع غزو العراق، كان النزاع الفكري حول قضية تأسيس الديمقراطية قائماً مع مجموعات نيوليبرالية، لم تمانع في احتلال بلدٍ عربي، وتدمير الدولة ومؤسساتها، بحجة إقامة التجربة الديمقراطية الأولى التي ستنشر عدوى الديمقراطية في الوطن العربي. تحت تأثير نظريات الانتصار النهائي لليبرالية في الحرب الباردة، وعولمة المفاهيم، أخذ هؤلاء موقفاً مؤيداً للغزو، واعتبروا أن الاحتلال قادر على تطوير شعوبنا "المتخلفة"، ضمن التماهي الكامل مع رؤية الاستعمار العنصرية، وفي إطار كراهية الذات.

هذا السحر الزائف للديمقراطية، الذي تبناه يساريون سابقون، وليبراليون قدامى وجدد، تحدث عنه الدكتور عزمي بشارة بالقول: "لقد أخطأ بعض الديمقراطيين العرب، خاصة من ذوي الأصول اليسارية في تحالفهم، السافر أو المستتر، مع التدخل الأميركي لصالح الإصلاح والديمقراطية. كانوا واهمين. وقد انهارت مناعتهم أمام سياسة الإمبراطورية نتيجة للموقف المتشنج والشعاراتي المعادي حتى للعناصر الحداثية في القومية العربية ومساواتها بالأنظمة. فكانوا مكشوفين دائماً، مرة لسحر الثورة العالمية، ومرة لسحر الديمقراطية المعولمة كسياسة إمبراطورية يراهن عليها... كانت القوة التي يراهن عليها بنظرهم دائماً خارجية" (الحياة اللندنية، 23 /8 /2007). هذا كلام ينطبق اليوم مع بعض التغيير، على المتبنين الجدد للتحالف مع التدخلات الأميركية والغربية، من أجل إقامة الديمقراطية، وهم اليوم ليسوا فقط من بقايا اليسار، بل أيضاً إسلاميون "متلبرلون"، يطلبون أنواع التدخلات الخارجية، تحت شعارات الديمقراطية وحقوق الإنسان.
لا نتحدّث، هنا، عن تحالفٍ مستتر مع التدخل الأميركي لصالح الإصلاح والديمقراطية، بل صار هؤلاء أكثر صراحة في التعبير، من خلال الحديث عن تعويلهم على الأميركيين، وتلاقي مصالحهم معهم، ثم عن خيبة أملهم من أدائهم وحجم تدخلهم غير الكافي، ومحاولة استعطاف الأميركيين لمزيد من التدخل، وبعض هؤلاء يندب حظه اليوم، ويتساءل ما إذا كانت المشكلة فيه، لأن الأميركيين لا يتحركون بالقدر الكافي لمساعدته. كان معظم هؤلاء من معارضي غزو العراق، لكنهم لم يتعلموا شيئاً من درس العراق، لا بخصوص أثر التدخل الخارجي في ضرب استقلال الدولة، ولا بشأن عمله على تدمير النسيج الاجتماعي، وإقامة ديمقراطية طوائف مشوهة، هي في حقيقتها قنطرة للاحتراب الأهلي.
الاختلاف مع هؤلاء قائم في تبنيهم الديمقراطية معياراً أوحد في الحكم على الأمور، لكن الاختلاف يصل إلى حد اعتبار طرحهم مساهماً في تدمير كل فرصةٍ للديمقراطية، إذ انتقل هؤلاء من الهوس بالديمقراطية الليبرالية، إلى الهوس بتدمير كل أرضيةٍ يمكن أن تقوم عليها الديمقراطية، عبر تدمير المجتمع والدولة. أصبح هؤلاء لا يمانعون التحالف مع حركات جهادية غير ديمقراطيةٍ باسم الديمقراطية، واستخدام الخطاب الطائفي باسم الديمقراطية، والدخول في حالة ثأريةٍ انتقاميةٍ ليس من الاستبداد وحده، بل من كل المكونات الاجتماعية التي يعتبرونها خصوماً، والمساهمة في تأجيج مشاعر الحقد، من أجل استمرار الحروب الأهلية وسفك الدماء.
باتت معارضة الاستبداد عند هؤلاء مجرد حقدٍ خالٍ من الرؤية السياسية، لكنه مغلف بشعارات الديمقراطية، ما يستوجب على خطابٍ ديمقراطي وطني عقلاني أن يرفض هذا الطرح بشدة، انتصاراً للديمقراطية، كما للوحدة الوطنية في المجتمعات العربية، والاستقلال ورفض الوصاية الأجنبية، فالديمقراطية لا تكون من دون استقلال وطني، ومجتمع متماسك، ومؤسسات دولة قائمة.
الديمقراطية مطلب عربي، للخلاص من الاستبداد. ولكن، ضمن رؤيةٍ تتضمن تطلعاً للنهوض، لا جنوحاً نحو التبعية، ولا غرائزية منفلتة ترفع شعار الديمقراطية وتتحالف مع أعدائها لتحرّض على الاحتراب الأهلي. هذا السحر الزائف لشعارات الديمقراطية يوجب الفرز داخل المؤيدين للتحول الديمقراطي، لرفض تضليل الجمهور باسم الديمقراطية، وقيادتهم نحو الاقتتال الداخلي، والتبعية للخارج، في حلقة مفرغة.

9BB38423-91E7-4D4C-B7CA-3FB5C668E3C7
بدر الإبراهيم

كاتب سعودي. صدر له كتاب "حديث الممانعة والحرية"، و"الحراك الشيعي في السعودية .. تسييس المذهب ومذهبة السياسة".