سجن صيدنايا... عنوان الرعب في "جمهورية الخوف"

18 نوفمبر 2019
تحوّلت معتقلات النظام إلى "مسالخ بشرية" (فرانس برس)
+ الخط -

يعد ملف المعتقلين في سجون النظام السوري الأكثر إيلاماً في القضية السورية، إذ لا يزال عشرات آلاف المدنيين والعسكريين، الذين اعتقلوا على خلفية موقفهم من الثورة السورية، مجهولي المصير، فضلاً عن كون الآلاف منهم قضوا تحت التعذيب خلال سنوات الثورة السورية وفق منظمات محلية ودولية. ويرفض النظام التفاوض حول هذا الملف خشية أن يكون مدخلاً واسعاً لسوق كبار ضباط أجهزته الأمنية وجيشه إلى محاكم دولية متخصصة، فيما يكتفي المجتمع الدولي ببيانات إدانة جوفاء عند ظهور بيانات أو وثائق تؤكد أن معتقلات النظام "مسالخ بشرية"، يمارس فيها مختلف أنواع التعذيب وأكثرها بشاعة، والتي تفضي إلى الموت أو العجز مدى الحياة.

وعاد سجن صيدنايا إلى واجهة المشهد السوري مرة أخرى، حيث أصدرت "رابطة معتقلي ومفقودي سجن صيدنايا"، التي تتخذ من تركيا مقراً لها، أول من أمس الثلاثاء، تقريراً وثّقت فيه شهادات 400 ناجٍ، تحدثوا فيها عن أسباب وظروف الاعتقال وتبعاته، منذ تأسيس السجن سيئ الصيت الواقع شمال العاصمة دمشق، في عام 1987 وحتى 2017، اقتصرت على الذكور فقط، وكان بينهم اثنان بالمائة من الأطفال. ووصف المعتقلون السابقون المحاكم التي يُعرضون عليها بأنها أشبه بالأجهزة الأمنية، مهمتها تصفية المعارضين وسلبهم حريتهم وممتلكاتهم. وبعد 2011 لجأ النظام السوري إلى محكمة الميدان العسكرية، وهي تفتقر إلى أدنى شروط التقاضي العادل، حيث لا يسمح للمعتقل بتوكيل محامٍ أو الاتصال مع العالم الخارجي، بينما عرُض نحو 6.5 في المائة فقط من المعتقلين في صيدنايا على محكمة الإرهاب.

ورصد التقرير الآثار الصحية والاجتماعية والاقتصادية على حياة المعتقلين. وقدم صورة واضحة عن حجم الضرر الذي لحق بالمعتقلين جراء عملية الاعتقال نفسها وعمليات التعذيب التي رافقتها. كما تحدث عن وجود شبكة كبيرة من المسؤولين والأشخاص النافذين في النظام وبعض القضاة والمحامين تقوم بعمليات ابتزاز مالي لأهالي المعتقلين والمختفين قسراً، بغية تأمين زيارات لأماكن الاعتقال أو تقديم وعود بإخلاء سبيلهم. أما ممارسات التعذيب، فقد ازدادت بعد الثورة، كسلخ الجلد وسكب الماء المغلي والكي بأدوات حارقة وتشويه الوجه والحرمان من الأكل، وتعرض لها ثلاثة أرباع المعتقلين، بينما كانت بحدود النصف بين معتقلي ما قبل الثورة. وبحسب التقرير، فقد ازدادت بعد الثورة ممارسات التعذيب الجنسي، مؤكداً أن النسبة أكبر من التي تمكّن من إحصائها، بسبب حرج المحتجزين من التطرق إلى الحديث عن مواضيع كهذه. كما ازداد التعذيب النفسي بعد الثورة مقارنة بما قبلها.

تقرير الرابطة عن معتقل صيدنايا ليس الأول من نوعه، إذ وثقت منظمة "العفو الدولية"، في تقرير نشرته بدايات عام 2017، إعدامات جماعية بطرق مختلفة نفذها النظام السوري، بحق المعتقلين في سجن صيدنايا. وفي تقرير تحت عنوان "المسلخ البشري"، ذكرت المنظمة أن إعدامات جماعية شنقاً نفذها النظام بحق 13 ألف معتقل، أغلبيتهم من المدنيين المعارضين، بين عامي 2011 و2015. ووصفت المنظمة سجن صيدنايا العسكري بأنه "المكان الذي تذبح فيه الدولة السورية شعبها بهدوء". وكانت "العفو الدولية" قد وثقت، في منتصف عام 2016، مقتل 17723 معتقلاً، في أثناء احتجازهم في سجون النظام السوري، ما بين مارس/ آذار 2011 وديسمبر/ كانون الأول 2015، أي بمعدل 300 معتقل كل شهر.




وذهبت جهود المعارضة السورية سدى على صعيد المعتقلين والمفقودين في سورية، حيث رفض النظام مقاربة هذا الملف بشكل جدي في مساري التفاوض في أستانة وجنيف، بل رفع تحديه للمجتمع الدولي من خلال الإفراج عن قوائم الآلاف من المعتقلين الذين قتلوا تحت التعذيب في سجونه. وتكررت محاولات المعارضة السورية تحريك ملف المعتقلين في سورية استناداً إلى تقارير متعاقبة تضيء على الجانب المعتم من حياة السوريين على مدى عقود، لكنها لم تستطع فعل شيء في ظل صمت دولي عما اقترفه ولا يزال يقترفه بحق المعتقلين. ونجحت فصائل المعارضة السورية على مدى سنوات في إجبار النظام على عمليات تبادل محدودة، حيث تجرى عمليات مقايضة بين أسرى من قوات النظام وبين معتقلين سوريين، خصوصاً من النساء. ورغم ادعاء الجانب الروسي الاهتمام بهذا الملف في مسار أستانة، إلا أن الوعود الروسية بقيت حبراً على الورق، حيث لم تضغط على النظام من أجل إطلاق معتقلين في سياق ما يسمى بـ"إجراءات الثقة" بين المعارضة والنظام.

ولم يعد سجن صيدنايا هو السجن الرهيب الوحيد في سورية، حيث انتشرت مئات السجون في سورية، بل بات لكل مليشيا سجن خاص بها، حيث كثر القتل خارج قوانين النظام. لكن سجن صيدنايا يبقى عنوان الرعب البارز في سورية منذ استلام حافظ الأسد للسلطة في عام 1970، واستمر هذا السجن كذلك في عهد ابنه بشار. وبعد خروج عدد من المعتقلين في سجن صيدنايا، سواء قبل الثورة أو خلالها، إلى خارج البلاد، ظهر العديد من الشهادات التي تؤكد أن التعذيب الممنهج هو الأسلوب الوحيد التي تتبعه أجهزة النظام الأمنية مع المعتقلين. ويؤكد المعتقل السابق في سجن صيدنايا زكريا الإبراهيم، لـ"العربي الجديد"، أن "ما قاله رأس النظام منذ أيام عن عدم وجود تعذيب في السجون السورية عهر وكذب صريح"، مضيفاً "تعرضت خلال فترة اعتقالي في جهاز أمن الدولة، ومن بعد ذلك في سجن صيدنايا، والتي امتدت من 2008 إلى 2012، إلى مختلف أنواع التعذيب، بما فيها الضرب والإهانة والتعذيب بالكهرباء والدولاب وبساط الريح والحرمان من النوم والأكل والدواء". وتابع "كنا معتقلين بمكان ضيق ولا يوجد تهوئة ولا يسمح لنا بالزيارة أو الخروج للتنفس". وأشار إلى أن "الإهانة كانت مستمرة وممنهجة في سجن صيدنايا، بالإضافة إلى حرمان من التنفس ومن الزيارات ورؤية الأهل والعلاج". وقال "أسوأ عقاب كان هو السجن في المنفردة، حيث كنا نتعرض للضرب والحرمان من النوم والأكل والحمام والدواء، وكل من يُحبس بالمنفردة يخرج مصاباً بالجرب والقمل، وكنا نتعرض لتهديدات مستمرة بالقتل لنا ولأهلنا".

من جانبه، أوضح المعتقل السابق في سجن صيدنايا آزاد عثمان، لـ"العربي الجديد"، أن أجهزة النظام الأمنية مارست كل أنواع التعذيب في سجن صيدنايا للدرجة التي تُفقد المعتقل المعذب الوعي. وقال "يضعون المعتقل في الدولاب لتبدأ بعد ذلك حفلة ضرب وتعذيب من قبل العناصر في السجن". من جانبه، قال أحد المعتقلين في أثناء الثورة والموجود الآن في ألمانيا، والذي فضّل عدم ذكر اسمه بسبب وجود أهله في مناطق النظام، "في الشهور الأولى من الثورة اعتقلت في درعا، ومن ثم نقلت إلى معتقلات المخابرات الجوية في العاصمة دمشق"، مضيفاً "رأيت ما لا أستطيع نسيانه رغم تعاقب السنين. لقد أجبروا أحد المعتقلين على تناول برازه في مشهد لا يمكن نسيانه، ورغم ذلك لم يكسروا إرادة ذاك الشاب الذي ظل لآخر لحظة يهتف للثورة حتى فارق الحياة نتيجة التعذيب". وأضاف "شهدت مقتل العديد من الأشخاص نتيجة التعذيب، ومنهم أحد الشباب الذين أعرف أهله جيداً. وعندما خرجت لم أخبرهم أنه مات. أردت أن يعيشوا على أمل لقائه مرة أخرى، خصوصاً أمه. رأينا ما يشيب الولدان من اغتصاب النساء والرجال في المعتقلات من قبل عناصر النظام الذين لم يترددوا عن فعل أي شيء لا يمت للإنسانية بصلة".

إلى ذلك، ذكر رئيس المركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، المحامي أنور البني، أن خمسة ناجين من التعذيب في سورية تقدموا، الثلاثاء الماضي، بملف ادعاء بحق 17 مسؤولاً عالي المستوى في أجهزة الأمن السورية إلى مكتب الادعاء ووحدة التحقيق بالجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب في النرويج بأوسلو. وأشار إلى أن هذه الخطوة تأتي بدعم ومشاركة المركز الأوروبي لحقوق الإنسان الدستورية ولجنة هلسنكي النرويجية والمركز السوري للدراسات والأبحاث القانونية، مع مجموعة قيصر والمركز السوري للإعلام وحرية التعبير. وفي حديث مع "العربي الجديد" اعتبر البني أن التقدم بملف الادعاء ضد مسؤولين في النظام السوري عن التعذيب والإخفاء القسري والقتل تحت التعذيب "خطوة جديدة نحو العدالة للضحايا ومعاقبة المجرمين، ومنع الإفلات من العقاب". وأشار البني، على صفحته في موقع "فيسبوك"، إلى أن النرويج "دولة لديها الصلاحية العالمية لمحاكمة المجرمين ضد الإنسانية، حتى لو لم يوجدوا على أراضيها"، موضحاً أن ناجين من التعذيب وأهالي الضحايا ومحامين ومدافعين عن حقوق الإنسان وثقوا الجرائم من أجل تقديم المسؤولين إلى العدالة خارج سورية، باستخدام الوسائل القانونية في أوروبا. وأضاف "يمكن تحقيق ذلك من خلال مبدأ الولاية القضائية العالمية، والذي يسمح للسلطات النرويجية بالتحقيق في الجرائم الدولية"، وبيّن أن "الشكاوى الجنائية في بلدان أوروبية أخرى، مثل ألمانيا وفرنسا، أسهمت في إصدار أوامر اعتقال ضد شخصيات رئيسية في نظام التعذيب التابع للأسد"، وفق البني.