أخيراً، وصلت إلى السيارة التي تبعد عن البيت حوالي مائة متر فقط. كنت قد جهّزت نفسي كجندي ذاهب إلى حرب أميركية في "العالم الثالث"، كما في أفلام هوليود، بكامل العدة؛ بوط الثلج، ومعطف الثلج، وقفازات الثلج، وغطاء رأس للثلج، ونظارات تحمي العيون من بياض الثلج، كما تحميها من البرودة. كنت قد قررت التحدي، فثلاثة أيام في البيت كانت كافية كي تدفعني لاتخاذ قرار الخروج من "السجن" الذي فرضته عليّ الأحكام العرفية لطبيعة مونتريال (كيبيك، كندا) خلال هذا الأسبوع.
وصلت يدي إلى مقبض الباب فضغطت عليه بقوة، لكنّ الجليد الذي استعمر حديد السيارة كان أقوى، فلم يستجب الباب لمحاولتي الأولى، فاستجمعت ما تبقّى من قوة في عضلات ذراعي اليمنى ضاغطاً، وإذ به يخرج في يدي مكسوراً، ويبقى الباب مغلقاً. انزعجت، لكنّي اطمأننت إلى الفوائد التي أحصدها من ذهابي الأسبوعي إلى صالة الرياضة على عضلاتي. استطعت أخيراً فتح الباب الآخر ووصلت إلى مقود السيارة، أدرت المفتاح فلم يستجب، وكان البرد قد سبقني إليه وجمده، وبعد محاولات عدة، قررت العودة إلى البيت، والقبول بسجن الطبيعة، فبالرغم من قساوته، هو أرحم من سجون الاستبداد في بلادنا.
ليس البرد طارئاً على كندا عامة، ومدينة مونتريال خصوصاً، لكنّه أحياناً، كما هو الوضع الآن، يكون أشد قسوة من العادة. من المعروف عند الكيبيكيين أنّ متوسط عدد العواصف الثلجية التي تضرب مونتريال هو أربع في موسم الشتاء. هذا العام يشهد نوعاً من التسارع، فخلال الأسبوعين الأخيرين، مرت بنا عاصفتان، والثانية ما زلنا نعيش آثارها، فحتى الآن لم يرفع الثلج من جميع شوارع مونتريال. وما زاد من صعوبة هذه العاصفة أنّها ترافقت مع موجة برد غير عادية، إذ سجلت أدنى درجة حرارة حتى الآن، وهي 28 تحت الصفر، لكن مع عامل الرياح وصلت ليل الأربعاء الماضي (27 - 12 - 2017) وصباح الخميس إلى 42 تحت الصفر. وكانت وكالة الأرصاد الجوية قد أصدرت تحذيرات لمعظم المدن، خصوصاً في أونتاريو وكيبيك، إذ بلغت الحرارة في شمال أونتاريو 30 تحت الصفر، وفي تورونتو 20 تحت الصفر، وفي مونتريال ومدينة كيبيك 25 تحت الصفر. وسجلت أدنى درجات الحرارة في أقاليم الشمال الغربي، إذ بلغت 43 تحت الصفر، من دون احتساب عامل الرياح.
تولت المؤسسات الخيرية الكشف على شوارع مونتريال لنقل المشردين إلى ملاجئ المدينة. وأفادت مؤسسة نجدة السيارات المعطلة أنّها تلقت مساء الخميس الماضي 8600 طلب مساعدة لتصليح السيارات التي تعطلت بسبب البرد القارس في مقاطعة كيبيك وحدها.
بدوري، اتصلت بابني، الذي يعمل مع البلدية في رفع الثلوج، لأحذره من البرد، فردّ عليّ ضاحكاً: "كأنّك وصلت اليوم إلى كندا. ضع ثياب الثلج واخرج من البيت، فلا يجوز، وأنت في هذا العمر، ألّا تتحرك بل تستسلم للسجان".
اقــرأ أيضاً
الجمعة، 29 ديسمبر. درجة الحرارة مع عامل الرياح 30 تحت الصفر. عملت بنصيحة ابني، وارتديت كلّ ما لديّ من ثياب، وحملت كاميرتي في كتفي وخرجت أتجول في الحي. أولى مشاهداتي كانت سيارة البلدية التي تجمع قمامة الحي، يركض خلفها وأمامها عاملان، لرفع أكياس القمامة ووضعها في السيارة. دخلت محلاً تجارياً لأشتري بطاقة للهاتف، فكانت حركة الناس عادية، ونسبة المسنين أعلى قليلاً من نسبة الشباب. أخذت حاجتي وتجاوزت مئات عدة من الأمتار للوصول إلى المصرف فكان فيه عدد من الزبائن يفوق العشرة ينتظرون أدوارهم.
سحبت مبلغ إيجار البيت، ثم توجهت إلى الحديقة العامة لرؤية من فيها، من باب الفضول، فوجدت بعض الأطفال يتزلجون على الثلج الذي أصبح قاسياً بعض الشيء، ما سمح لي بالسير فوقه وعبور الحديقة من طرف إلى طرف، وفي الوقت نفسه مشاهدة الأطفال وهم يلعبون غير مكترثين بالبرد أو الثلج، لكن مع ذلك يرتدون كلّ الثياب الضرورية. كان محل البيتزا مزدحماً، ودراجة توصيل الطلبات تقف أمام المحل. مررت أمام مكتبة الحي، فدخلت لتفقد الرواد، كانت الوجوه نفسها تقريباً مستغرقة في القراءة أو البحث في أجهزة الكومبيوتر.
في طريق العودة إلى البيت، مررت بالقرب من محطة المترو، عند تقاطع الشارعين كان متسول يقف مرتدياً قفازات الثلج، حاملاً بيده علبة "يخشخش" بها عند نوافذ السيارات المغلقة. في مدخل محطة المترو، المحمية نسبياً من البرد، كان شاب وصبية يتبادلان القبل، ربما، من أجل استعادة الحرارة المفقودة.
ذكريات
قبل عام 1993، لم أكن أعرف أنّ البرد قد يحرق الجلد البشري كالنار تماماً. ففي سهرة رأس السنة في ذلك العام، وكنا نقيمها في صالة النادي الكندي - العربي، وكانت الحرارة قد سجلت رقماً قياسياً في انخفاضها وصل حتى 60 درجة تحت الصفر، بما في ذلك عامل الرياح، تعب أحد الزملاء لتشغيل سيارته التي لم تستجب له، ففتح غطاء المحرك علّه يكتشف العطل، لكنّ البرد الشديد دفعه إلى الهروب في اتجاه الداخل، كان الوقت الذي أمضاه في محاولة تشغيل السيارة وفتح غطاء المحرك لا يتجاوز 15 دقيقة، لكنّه كان كافياً لحرق القسم المكشوف من وجهه كما لو أنّ جمراً وضع عليه. في الأسبوع التالي كان وجهه يقشر الجلد المحروق.
عام 1998، ما بين الرابع والعاشر من يناير، أصابت كيبيك كارثة بيئية خطيرة معروفة باسم "فيركلاس"، إذ أدى الانخفاض الحاد في درجات الحرارة، بعدما كانت مرتفعة نسبياً، إلى تحول كلّ شيء في الطبيعة إلى جليد، ما قطع عشرة آلاف كيلومتر من الخطوط الكهربائية، فانقطعت الكهرباء عن عشرات الآلاف من البيوت. جرى نقل الناس إلى مراكز تجمع، لكنّنا بقينا في بيتنا، وقد زارنا مراقب من البلدية للتأكد من سلامتنا، عندها قال لنا: "ممنوع البقاء في البيت إذا انخفضت الحرارة تحت 15 درجة مئوية، وزودنا بعناوين المراكز التي تؤوي الناس".
قد يعتقد أبناء البلاد الحارة ومنها بلادنا، عندما يسمعون بدرجات الحرارة المنخفضة في كندا، أنّ الحياة قد تتوقف، وأنّ الناس يبقون في بيوتهم، لكنّ الواقع مخالف، فللحياة هنا نمطها الخاص الذي ينسجم مع الطبيعة، بالإضافة إلى التكنولوجيا التي حسنت شروط الحياة كثيراً. وقد يمثل الإنسان الذي يعيش في الصحراء الحارة الصورة المعكوسة لمن يعيش في صحراء الثلج.
اقــرأ أيضاً
وصلت يدي إلى مقبض الباب فضغطت عليه بقوة، لكنّ الجليد الذي استعمر حديد السيارة كان أقوى، فلم يستجب الباب لمحاولتي الأولى، فاستجمعت ما تبقّى من قوة في عضلات ذراعي اليمنى ضاغطاً، وإذ به يخرج في يدي مكسوراً، ويبقى الباب مغلقاً. انزعجت، لكنّي اطمأننت إلى الفوائد التي أحصدها من ذهابي الأسبوعي إلى صالة الرياضة على عضلاتي. استطعت أخيراً فتح الباب الآخر ووصلت إلى مقود السيارة، أدرت المفتاح فلم يستجب، وكان البرد قد سبقني إليه وجمده، وبعد محاولات عدة، قررت العودة إلى البيت، والقبول بسجن الطبيعة، فبالرغم من قساوته، هو أرحم من سجون الاستبداد في بلادنا.
ليس البرد طارئاً على كندا عامة، ومدينة مونتريال خصوصاً، لكنّه أحياناً، كما هو الوضع الآن، يكون أشد قسوة من العادة. من المعروف عند الكيبيكيين أنّ متوسط عدد العواصف الثلجية التي تضرب مونتريال هو أربع في موسم الشتاء. هذا العام يشهد نوعاً من التسارع، فخلال الأسبوعين الأخيرين، مرت بنا عاصفتان، والثانية ما زلنا نعيش آثارها، فحتى الآن لم يرفع الثلج من جميع شوارع مونتريال. وما زاد من صعوبة هذه العاصفة أنّها ترافقت مع موجة برد غير عادية، إذ سجلت أدنى درجة حرارة حتى الآن، وهي 28 تحت الصفر، لكن مع عامل الرياح وصلت ليل الأربعاء الماضي (27 - 12 - 2017) وصباح الخميس إلى 42 تحت الصفر. وكانت وكالة الأرصاد الجوية قد أصدرت تحذيرات لمعظم المدن، خصوصاً في أونتاريو وكيبيك، إذ بلغت الحرارة في شمال أونتاريو 30 تحت الصفر، وفي تورونتو 20 تحت الصفر، وفي مونتريال ومدينة كيبيك 25 تحت الصفر. وسجلت أدنى درجات الحرارة في أقاليم الشمال الغربي، إذ بلغت 43 تحت الصفر، من دون احتساب عامل الرياح.
تولت المؤسسات الخيرية الكشف على شوارع مونتريال لنقل المشردين إلى ملاجئ المدينة. وأفادت مؤسسة نجدة السيارات المعطلة أنّها تلقت مساء الخميس الماضي 8600 طلب مساعدة لتصليح السيارات التي تعطلت بسبب البرد القارس في مقاطعة كيبيك وحدها.
بدوري، اتصلت بابني، الذي يعمل مع البلدية في رفع الثلوج، لأحذره من البرد، فردّ عليّ ضاحكاً: "كأنّك وصلت اليوم إلى كندا. ضع ثياب الثلج واخرج من البيت، فلا يجوز، وأنت في هذا العمر، ألّا تتحرك بل تستسلم للسجان".
الجمعة، 29 ديسمبر. درجة الحرارة مع عامل الرياح 30 تحت الصفر. عملت بنصيحة ابني، وارتديت كلّ ما لديّ من ثياب، وحملت كاميرتي في كتفي وخرجت أتجول في الحي. أولى مشاهداتي كانت سيارة البلدية التي تجمع قمامة الحي، يركض خلفها وأمامها عاملان، لرفع أكياس القمامة ووضعها في السيارة. دخلت محلاً تجارياً لأشتري بطاقة للهاتف، فكانت حركة الناس عادية، ونسبة المسنين أعلى قليلاً من نسبة الشباب. أخذت حاجتي وتجاوزت مئات عدة من الأمتار للوصول إلى المصرف فكان فيه عدد من الزبائن يفوق العشرة ينتظرون أدوارهم.
سحبت مبلغ إيجار البيت، ثم توجهت إلى الحديقة العامة لرؤية من فيها، من باب الفضول، فوجدت بعض الأطفال يتزلجون على الثلج الذي أصبح قاسياً بعض الشيء، ما سمح لي بالسير فوقه وعبور الحديقة من طرف إلى طرف، وفي الوقت نفسه مشاهدة الأطفال وهم يلعبون غير مكترثين بالبرد أو الثلج، لكن مع ذلك يرتدون كلّ الثياب الضرورية. كان محل البيتزا مزدحماً، ودراجة توصيل الطلبات تقف أمام المحل. مررت أمام مكتبة الحي، فدخلت لتفقد الرواد، كانت الوجوه نفسها تقريباً مستغرقة في القراءة أو البحث في أجهزة الكومبيوتر.
في طريق العودة إلى البيت، مررت بالقرب من محطة المترو، عند تقاطع الشارعين كان متسول يقف مرتدياً قفازات الثلج، حاملاً بيده علبة "يخشخش" بها عند نوافذ السيارات المغلقة. في مدخل محطة المترو، المحمية نسبياً من البرد، كان شاب وصبية يتبادلان القبل، ربما، من أجل استعادة الحرارة المفقودة.
ذكريات
قبل عام 1993، لم أكن أعرف أنّ البرد قد يحرق الجلد البشري كالنار تماماً. ففي سهرة رأس السنة في ذلك العام، وكنا نقيمها في صالة النادي الكندي - العربي، وكانت الحرارة قد سجلت رقماً قياسياً في انخفاضها وصل حتى 60 درجة تحت الصفر، بما في ذلك عامل الرياح، تعب أحد الزملاء لتشغيل سيارته التي لم تستجب له، ففتح غطاء المحرك علّه يكتشف العطل، لكنّ البرد الشديد دفعه إلى الهروب في اتجاه الداخل، كان الوقت الذي أمضاه في محاولة تشغيل السيارة وفتح غطاء المحرك لا يتجاوز 15 دقيقة، لكنّه كان كافياً لحرق القسم المكشوف من وجهه كما لو أنّ جمراً وضع عليه. في الأسبوع التالي كان وجهه يقشر الجلد المحروق.
عام 1998، ما بين الرابع والعاشر من يناير، أصابت كيبيك كارثة بيئية خطيرة معروفة باسم "فيركلاس"، إذ أدى الانخفاض الحاد في درجات الحرارة، بعدما كانت مرتفعة نسبياً، إلى تحول كلّ شيء في الطبيعة إلى جليد، ما قطع عشرة آلاف كيلومتر من الخطوط الكهربائية، فانقطعت الكهرباء عن عشرات الآلاف من البيوت. جرى نقل الناس إلى مراكز تجمع، لكنّنا بقينا في بيتنا، وقد زارنا مراقب من البلدية للتأكد من سلامتنا، عندها قال لنا: "ممنوع البقاء في البيت إذا انخفضت الحرارة تحت 15 درجة مئوية، وزودنا بعناوين المراكز التي تؤوي الناس".
قد يعتقد أبناء البلاد الحارة ومنها بلادنا، عندما يسمعون بدرجات الحرارة المنخفضة في كندا، أنّ الحياة قد تتوقف، وأنّ الناس يبقون في بيوتهم، لكنّ الواقع مخالف، فللحياة هنا نمطها الخاص الذي ينسجم مع الطبيعة، بالإضافة إلى التكنولوجيا التي حسنت شروط الحياة كثيراً. وقد يمثل الإنسان الذي يعيش في الصحراء الحارة الصورة المعكوسة لمن يعيش في صحراء الثلج.