سجال التطبيع في السودان... تاريخ طويل لسياسيين بتأييد التقارب

18 يناير 2016
من تظاهرات سودانية ضد إسرائيل (أشرف شاذلي/فرانس برس)
+ الخط -
لم يكن حديث وزير الخارجية السوداني، ابراهيم غندور، عن إمكانية التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، هو الأول من نوعه بالنسبة لشخصيات سياسية سودانية، لكن توقيته وصدوره عن وزير الخارجية تحديداً يعيد فتح جدل واسع في الأوساط السودانية حول القضية.
وفي السياق نفسه، تكشف مصادر، لـ"العربي الجديد"، عن أن غندور يقف مع عدد من قيادات وأعضاء حزب "المؤتمر الوطني" الحاكم، الذين يرون ضرورة أن تُبنى علاقات الخرطوم على أساس المصالح وبحسابات الربح والخسارة، بعيداً عن أية محددات أخرى، وهي مجموعة لا يرى بعضها غضاضة في التطبيع مع إسرائيل. وكان حاكم ولاية القضارف السابق، رئيس حزب "المؤتمر الوطني" في الولاية، كرم الله عباس، قد جاهر بالدعوة للتطبيع مع إسرائيل، جازماً بوجود توجّه داخل الحزب الحاكم يطالب بالتطبيع، ومعتبراً أن الأفكار والآراء لا يُحاكم عليها.

ولاقى موقف غندور انتقادات سريعة، إذ طالب رئيس مجمّع الفقه الإسلامي، عصام أحمد البشير، غندور بنفي الخبر في حال عدم صحته، أو تقديم اعتذار رسمي عنه، موجّهاً في خطبة الجمعة الماضية انتقادات للكيان الصهيوني.

في المقابل، حاول البعض الدفاع عن تصريحات غندور، وطالبوا بعدم إخراجها عن السياق باعتبار أنها جاءت في لقاء تشاوري ضم إسلاميين قدماء، فضلاً عن شخصيات في الاستخبارات والأمن، مشيرين إلى أن الوزير في رده على مداخلات أحد المشاركين في اللقاء، الذي فُتح أمام الإعلام حاول استقصاء آراء تلك الفئة من خلال رده ذاك، والذي فيه الاستعداد لدراسة التطبيع مع إسرائيل، بعدما جاءت المداخلة مستفسرة حول ما يدور في الغرف المغلقة بين الخرطوم وواشنطن، وما نُقل من أن الولايات المتحدة أكدت أنها محرجة من علاقات الخرطوم العدائية تجاه تل أبيب، وأنها ترى في تطبيع السودان مع إسرائيل مدخلاً لعلاقات جيدة معها.

لكن المراقب للتصريحات والتسريبات التي نُقلت عن بعض قيادات الحزب الحاكم ومُفكري الحركة الإسلامية في السودان، يجد أن غندور ليس أول من جاهر بهذه الخطوة. وسبق أن سرّب موقع "ويكيليكس" برقية بتاريخ يوليو/تموز 2008 أرسلها دبلوماسي أميركي لخارجية بلاده، أكد فيها مستشار الرئيس السوداني وقتها، القيادي الحالي بالحزب الحاكم، مصطفى عثمان إسماعيل، أن أوجه التعاون التي تقترحها الخرطوم مع واشنطن تتضمّن التطبيع مع تل أبيب. وأشارت البرقية إلى أن إسماعيل لدى لقائه مسؤول الشؤون الأفريقية في الخارجية الأميركية، ألبرتو فرنانديز، ذكر أنه في حال سارت قضية التطبيع مع الولايات المتحدة بصورة جيدة فيمكن للأخيرة أن تُسهّل التطبيع مع إسرائيل باعتبارها الحليف الأقرب لها. ووقتها حاول إسماعيل نفي تلك الأقوال ووصفها بالكاذبة، كما لم يصدر عن السفارة الأميركية في الخرطوم ما يساند أيّاً من الطرفين.

وفي حوار مع قناة "الشروق"، (التابعة للحزب الحاكم بشكل غير مباشر)، طالب المفكّر الإسلامي، أحد قادة النظام قبل ابتعاده عنه، حسن مكي، بالتطبيع مع إسرائيل، معتبراً أن "حركة حماس نفسها متّجهة نحو التطبيع مع إسرائيل عبر إعلانها الهدنة"، على حد زعمه، جازماً في الوقت نفسه أن التطبيع لا يعني نسيان القضية الفلسطينية. واعترف مكي بعقد لقاءات مع مفكّرين وسياسيين إسرائيليين ومحاورتهم ضمن برنامج نظمته مؤسسة ألمانية.

وخلال الفترة الأخيرة، نُقلت تصريحات لمنتسبين إلى الحزب الحاكم بينهم برلمانيون، طالبوا بالتطبيع مع تل أبيب باعتبار أن هذه الخطوة يمكن أن تُجنّب البلاد العديد من المشاكل، مشيرين إلى أن "لا غضاضة في الخطوة، ولا محاذير بالنظر لتطبيع الخرطوم مع الصين التي لا دين لها"، بحسب قول بعضهم.

ووصلت قضية التطبيع مع إسرائيل إلى مؤتمر الحوار الوطني، الذي انطلق في الخرطوم في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، بغياب فصائل رئيسية في المعارضة المسلحة والسلمية، بينها الحركات التي تقاتل الحكومة في إقليم دارفور ومنطقتي النيل الأزرق وجنوب كردفان، فضلاً عن حزب "الأمة"، بزعامة الصادق المهدي، والحزب "الشيوعي"، بقيادة مختار الخطيب.

ففي لجنة الشؤون الخارجية الخاصة بالحوار، والمعنية بوضع تصّور كامل للسياسة الخارجية ليتم تبنيها خلال الفترة المقبلة، انقسم أعضاؤها حول مقترح قدّمه حزب "المستقلين" المشارك في الحوار، والذي طالب بالتطبيع مع تل أبيب. فأيّدت مجموعة من أعضاء اللجنة المقترح، متحدثة عن ضرورة أن تقوم علاقات البلاد الخارجية على المصالح ووفق المتغيرات والمستجدات في المنطقة، فيما شددت المجموعة الرافضة على ضرورة أن تقف البلاد ضد الكيان الصهيوني، باعتباره نظاماً عنصرياً يسعى إلى إقامة دولة دينية بالمنطقة لا تقف حدودها عند فلسطين. ومع احتدام الجدل، قررت اللجنة إرجاء حسم الخلاف حول تلك النقطة إلى وقت لاحق.

اقرأ أيضاً: وزير خارجية السودان يلمح إلى إمكانية التطبيع مع إسرائيل

ومنذ وصول النظام الحالي إلى الحكم في السودان في عام 1989، ناصبَ إسرائيل العداء، وعمد إلى تقديم يد العون للفصائل الفلسطينية التي تقاتلها، وجاهر بتأييدها ودعمها، ولا سيما حركة "حماس"، وكان يعتبر مجرد ذكر كلمة اسرائيل بمثابة خط أحمر. لكنه قام بخطوة وقتها لم يجد لها البعض تفسيراً، إذ عمد النظام عند وصوله إلى الحكم، إلى إعلان قرارات جمهورية بالعفو العام عن المتورطين في عملية ترحيل اليهود الفلاشا عام 1984، والتي تمت محاكمتهم علنيّاً وعوقبوا بالسجن لفترات مختلفة وصلت إلى تسعين عاماً. كما عيّن النظام البعض منهم سفراء.

ويرى مراقبون أن العديد من الظروف تدفع الخرطوم لمراجعة موقفها من الدول بشكل عام، ومنها الأوضاع الاقتصادية الخانقة التي تعيشها البلاد، ولا سيما بعد خروج نحو 70 في المائة من إيرادات البترول من الخزينة العامة بسبب انفصال الجنوب، وتدهور العملة المحلية مع وصول الدولار الأميركي إلى 6.11 جنيهات سودانيّة، فضلاً عن رغبة السودان القوية في التطبيع مع واشنطن، والتقلبات في السياسة الخارجية التي لا تضع لها استراتيجية محددة أو محددات فكرية وأخلاقية.

ويشير هؤلاء إلى العداء، الذي أظهره النظام لدول الغرب عموماً عند وصوله إلى سدة الحكم، في مقابل محاولاته المستميتة اليوم للتطبيع مع هذه الدول، معتبرين أن "هذا الأمر يجعل الرغبة في التطبيع مع إسرائيل منطقية".

ولا يستبعد المحلل السياسي عبدالله الطيب، في حديث مع"العربي الجديد"، "أن تفتح الحكومة حواراً للتطبيع مع تل أبيب، لكنها لن تفعل ذلك ما لم يكن المقابل مغرياً جداً". ويشير البعض إلى استقبال الحكومة خلال الفترة الماضية رئيسة جمعية "الصداقة مع إسرائيل" تراجي مصطفى، وعقد لقاءات معها على مستوى الرئيس السوداني، عمر البشير، والأمين العام لحزب "المؤتمر الشعبي الإسلامي"، حسن الترابي، فضلاً عن إشراكها في الحوار على الرغم من إسقاط الجنسية السودانية عنها في وقت سابق، بوصفها خائنة للبلاد، معتبرين ذلك بمثابة تغيير في مواقف الخرطوم.

وتراجي مصطفى ناشطة سودانية قريبة من الحركات الدارفوية المسلّحة، وشكّلت في عام 2006 جمعية سودانية للصداقة مع إسرائيل، أكدت حينها أنها جاءت كرد فعل لتجاهل الدول العربية لأزمة دارفور، بينما وجدت اهتماماً من قبل الإسرائيليين. حينها أكدت مصطفى أنها تملك معلومات لسياسيين سودانيين يؤيدون التطبيع مع إسرائيل، كما زارت في عام 2012 تل أبيب، وتم استقبالها هناك بحفاوة، ليعمد البرلمان السوداني في عام 2013 إلى سحب الجنسية السودانية عنها ووصفها بـ"الخائنة".

ويستبعد الخبير في ملف الإسلاميين، زين العابدين أحمد، أن تلجأ الخرطوم في الوقت القريب نحو التطبيع مع إسرائيل، باعتبار ذلك من شأنه أن يفقدها دعم الإسلاميين المنتشرين في العالم والذي يُقدّر بملايين الدولارات، وهو الدعم الذي ساعدها في الصمود طيلة الفترة الماضية. ولا يرى "أن هناك فائدة تُرجى من التطبيع مع تل أبيب في الوقت الحالي"، لافتاً إلى أن "موريتانيا سبق أن جربت الخطوة، وتراجعت عنها، خصوصاً أن إسرائيل ليس من السهل أن تُقدّم دعماً اقتصادياً، كما أنها غير مقبولة شعبياً". ويشير إلى أن "القواعد الإسلامية في العالم ضد إسرائيل، وهي قاعدة تساند نظام الخرطوم مادياً ولا أعتقد أنه سيخاطر بها، إلا إذا وجد مصلحة كبيرة تغطي ذلك".

وكان لليهود وجود في السودان بشكل مباشر قبل استقلاله، وتطورت العلاقات الاقتصادية بين إسرائيل والمستعمر في عام 1949، حيث كانت الطائرات الإسرائيلية وقتها تتزود بالوقود من مطار الخرطوم وتعبر الأجواء السودانية. كما أُنشئت علاقة تجارية بوصول بعثة تجارية إسرائيلية مكوّنة من خمسين شخصاً لشراء البضائع والمنتجات السودانية. وبعد الاستقلال ناصب السودانيون إسرائيل العداء، وخرجت أول تظاهرات ضدها في عام 1956 وكانت الأكبر من نوعها. ولم تعمد أي من الحكومات التي تعاقبت على حكم السودان إلى خلق علاقات دبلوماسية مع إسرائيل، كما عمدت جميعها إلى تضمين عبارة "يُسمح بالسفر لكل الدول عدا إسرائيل" في جواز السفر السوداني. ولكن تقارير ودراسات تحدثت عن لقاءات لحزب "الأمة" الحاكم في عام 1954 بشخصيات إسرائيلية، وتلقيه دعوات منها لتنسيق الموقف ضد مصر و"أطماعها" في السودان. كما أشارت تقارير إلى لقاءات جمعت الرئيس السوداني الراحل، جعفر نميري، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي، أرئيل شارون، للتنسيق في عملية ترحيل اليهود الفلاشا عبر الخرطوم وهو ما تم بالفعل حتى عام 1984.

اقرأ أيضاً: مفاوضات السودان: الحكومة تبدي مرونة والفصائل الدارفورية تتمنع

المساهمون