درجة بعد درجة، يكتمل ذلك السلّم الناريّ ليضيء سماء جنوب شرق الصين. قبل أيّام، بلغت الجدّة المائة من عمرها. أما حفيدها الفنّان، فرغب في تكريمها في ذكرى ميلادها، من خلال "سلّم إلى الجنّة" ابتكره من ألعاب ناريّة. وانتشرت التسجيلات التي تُظهر اختراق السلّمِ عتمةَ تلك الليلة، لنحو خمسمائة متر صعوداً باتجاه "السماء - الجنّة".
قد تكون الجدّة افتخرت بإنجاز حفيدها المميّز، وتأثّرت بلفتته تلك. قد تكون قالت له بصوت خافت مرتجف وحنون "تطمني يا بَيتي"، إنما بمفردات صينيّة محليّة، قبل أن تطوّقه بذراعَين مرتجفتَين.
الجدّات يتشابهنَ حول العالم، أو قُل في مجتمعات بحدّ ذاتها. هنّ غالباً ما يُصوَّرنَ لطيفات عطوفات، يُثرنَ حنيناً في النفوس. هو حنين إلى أيّام غابرة، كنّ يُمثّلنَ فيها أماناً ما، في حين نفتّش اليوم عن أيّ شكل من أشكاله، عبثاً.
في مسرحيّة "ميس الريم"، تحكي فيروز عن حال كثيرين وهي تغنّي "ستّي يا ستّي اشتقتلّك يا ستّي (...) بِذكُر الليالي الطويلة وأنا طفلة بالزمان.. وقصص الشتي يحكيلي صوتك اللي كلّه أمان". كثيرون هم صغار الأمس، الذين ما زالوا يحنّون إلى قصص جدّاتهم. هؤلاء الجدّات اللواتي إما نقصدهنّ اليوم في المناسبات حصراً - انشغالات الحياة تستهلكنا - وإما توفّينَ فتعود ذكراهنّ إلينا كلّما ضاقت بنا الدنيا وإما خطفتهنّ الشيخوخة منّا ولم يعدنَ يتعرّفنَ على وجوهنا.
لطالما عدّت مجتمعاتنا المسنّين، الجدّات والأجداد، "بركة" في البيت. ولطالما تردّدت - وما زالت - أسر كثيرة بوضع مسنّيها في دور خاصة. هي قد ترى في ذلك، مهانة لهؤلاء. بدورهم، هم يرون في انتقالهم إلى دور خاصة واحتمال وفاتهم هناك، مسّاً بكرامتهم. هم يرون في ذلك مقدّمة للتخلّي عنهم. كأنهم عادوا أطفالاً صغاراً يسكنهم قلق الهجر والخوف من الفراق مع شعور بالذنب، فينطوون على أنفسهم ويصابون بالاكتئاب إلى درجة تجعلهم يرغبون في الانسحاب.. من الحياة.
عندما كنّا صغاراً، غالباً ما كنّا نظنّ أن المسافة التي تفصلنا عن الأطفال الأكبر سنّاً، هائلة. ونتمنّى أن نكبر. يتكرّر الشعور نفسه مع كلّ مرحلة عمريّة، وبلمحة بصر لا نرى أنفسنا إلا وقد تقدّمنا في السنّ أكثر من المتوقّع. ندرك ذلك.. نجزع.. ونتمنّى لو يتوقّف الزمن. قريباً، نصبح - لا مفرّ - مثل هؤلاء المسنّين الذين إما يُكرّمون وإما يُهانون. ونخاف من الوحدة والمرض، ومن الشيخوخة التي قد تخطفنا فنعجز عن التعرّف على وجوه أعزاء وأبناء وأحفاد.
غداً هو اليوم العالمي للمسنّين. قد نتذكّر جدّات طيّبات، أو غيرهنّ من اللواتي لم يعبّرنَ في يوم عن عاطفة تجاهنا، أو حتى أخريات متجبّرات سقطنَ سهواً - أو عن سابق إصرار وتصميم - من حكاياتنا.
اقرأ أيضاً: قلنسوة خضراء وبيضاء