ستموت أمي.. بعد قليل
هذا المساء ستموت أمي فجأة، سأتسلل صباحاً إلى مطبخي، لن تكون هناك لتلفح القلب بجمر عينيها الذي خبا بعد ساعات أشعلتها بالبكاء، سأجلس إلى الطاولة أحتسي قهوتي وحيدة وقد غاب عنها طعم الملح...ستغدو مرّة أخيراً.
لن تكون أمي بانتظاري ككل صباح، لتدهشني بطفولة باغتتها في الثالثة والستين من عمرها، انتكاسة للحرب والغربة، لتحدثني عن شوقها لأمها التي قضت قبل ثمان سنوات، ولهفتها لمخبأ الحليب، كرضيع سيق إلى فطامه للتو، ولن يثنيها استهجاني عن الغرق في بئر الحنين.
وفجأة ستخلو نهاراتي من سرديات البكاء على الأحبة والأصدقاء والغرباء.. على خالي الصغير، إذ كان له قدر قلة من الشباب السوريين المحظوظين، فنجا من كل أسباب الموت العصية عن العدّ في البلاد، ليصير الضحية رقم 250 في العالم كله، لفيروس يتآكل جسده. هو حظ السوري إذ نجا من مصيرين لا ثالث لهما، أن يكون قاتلاً أو مقتولاً!
على هيام الأرملة، التي فقدت ابنها البكر فراس مطلع الثمانينيات بالسرطان، فأنجبت آخر بعد عام وحمّلته اسم الفقيد ليخلده، من دون أن تدري أنها حمّلته المصير ذاته، إذ قضى الابن الثاني مقتولاً في واحدة من مجازر الوطن، فكان على هيام أن تدفن فراس للمرة الثانية بعد 24 عاماً.
على صديقة عابرة في الطفولة أخرجها سكين داعش بعد أن حزّ عنقها من ركن معتم في الذاكرة. وعلى زوجة عمها السبعينية، إذ كانت تحبو صعوداً درجات سجن المزة الطويل لتزور ابنها الوحيد، وانتظارها له عند عتبة البيت عشر سنوات...كم تجيد أمي نكء الذكريات! لكنها ستموت هذا المساء، ولن يتآكلها الجزع بعد الآن على الأحبة والأصدقاء والغرباء، إذ باتوا ضحايا العنف والقهر والفقر والذل، ولن تختم حديثها مواسية كما اعتادت: "أمي ما كانت لتحتمل.. كم جميل أنها مضت قبل كل هذا".
ستموت أمي بعد قليل وسنمضي أياماً من المداولات، بين راغب في إرسالها لتدفن في سورية، وبين من يخشى على جسدها الرقيق مهانة السفر إلى وطن ما عاد فيه كرامة لحي أو ميت. وسأهزأ بوجه من سعى لإقناعي بأن طاغية دمشق أصدر مرسوماً بنقل جثمان أي سوري في المغترب على حساب "الدولة"، ستبدد ما يورده من تسهيلات ومكرمات، جثامينُ آلاف السوريين هناك، المتروكة للنكران. سأخون أشعار أمي وقوافيها المتخمة بشهوة الثرى قرب أبيها وأمها وشقيقها الصغير. فأبدلها وأنا ألتمس العذر منها: "تلك البلاد يا أمي.. صارت مجزرة".
ستموت أمي، وسأرفض أن أردد ما طلبته صديقتي: "اللهم أبدلها أهلاً خيراً من أهلها وزوجاً خيراً من زوجها" سأُذعر من فجاجة الدعاء وأنا أراقب أبي يصلي على جثمانها وقد قصم الفقد ظهره، وأرأف بقلبي أخي وأختي إذ فتتهما الأسى، وستراودني شهوة أنانية بأن تكون بيننا.. لتشهد قسوة موتها وحزننا.
"14 كيلومتراً، 25 دقيقة بالسيارة، ومسير 4 ساعات على القدمين" يرشدني تطبيق الخرائط على غوغل كل مرة أزور فيها قبرها المحفوظ في هاتفي النقال، رقم 183 السادس عمودياً الثاني في الأفق.."1763 كيلومتراً و22 ساعة بالسيارة"، عن مدينتها القابعة في قلب سورية، بينما تعجز الأقمار الصناعية في رصد درب يليق بالقدمين ويفضي إليها.
ستموت أمي وسينقسم عالمي إلى ما قبل وما بعد، الأماكن والأزمنة والوجوه والمناسبات والذكريات وتفاصيل لا يراها سوى القلب، سأنأى بنفسي عن سريرها خشية أن تجفلني أنفاسها، وأهرب من صورها خجلاً من العتب في عينيها، سأنام مدركة موتها وأستيقظ هلعة لرحيلها، وسأدرك ما معنى الحسرة إذ يسقط جواز سفرها المُلغى في يدي مصادفة، فأكتشف تاريخ ميلادها. سأتصبب بعرق من هبط السكر في دمه، كل مرة أمر بمتجر الثياب الخاص بها، ثم سأعبره لأشتري لها قميص نوم ناعماً.. وأهديه لامرأة غريبة لا تشبهها.
سأحدثها كأنها لم تكن يوماً، كأنها لم تمت أبداً، وسأعترف لها كما اشتهت دوماً بأن نبوءتها صدقت، وكذبت كل أنباء ساسة العالم، فلا أيام بشار باتت معدودة، ولا مستقبله كشريك لهم في قيادة العالم بات أمراً غير مقبول، "بشار لن يسقط يا أمي إلا وقد أحال سورية إلى كتلة من الشمس الملتهبة"، كما أخبرتني يوم قفزتُ قبل 6 سنوات منتشية بخروج أول مظاهرة تنادي بالحرية في البلاد. وسأكرر سبحة الاعترافات بأني كذبت عليها وأنا أودعها على عتبة دمشق إذ طمأنتها "أيام قليلة وأعود"، وأني بعد برهة فحسب بحت لمدينتي الشهية وأنا أراقبها تصغر أسفل نافذة الطائرة: "هو فراق طويل.. إن لم يكن للأبد".
سأصرخ باسمها إذ يقص قلبي الشوق إليها، وسألومها مرة تلو الأخرى لأنها أصغت لما أمليته عليها: "صرنا كباراً بما يكفي لتتوقفي عن منحنا حليب صدرك". وسأدرك متأخرةً أن هذا ما تواظب على فعله الأمهات. سيقض مضجعي حزن ابنتي وأنا أشاهد موتي في موتها، فأفكر بإنجاب أخت لها تقتسم معها الحزن، كما نفعل كل يوم أنا وشقيقتي، ثم سأركل الفكرة بعدد نكبات البلاد..التي ستطاردنا لعناتها!
وسننتبه فجأة إلى أن أمي لم تمت فجأة، وأنها سقطت ولم تقو على النهوض ثانية مذ التهمت حقائب السفر أبناءها واحداً تلو الآخر ونُثروا في الشتات، ومذ بدأت رثاء من قتلوا قبل أن يعرفوا لمَ ومن انتصر؟. سقطت لأنها أدارت ظهرها لكل ما لقّناها من حيل المقاومة والأمل، فآثرت أن تبقى الابنة البارة للخوف والحزن والحنين...ولأنها أدت بأمانة كل الواجبات، لكنها عجزت دوماً عن تأدية الأهم، أن تحب نفسها قليلاً لتحتمل ما لا يُحتمل.
قبل عام... ستنهض أمي من فراشها مع الفجر.. كما اعتادت لستين عاماً، ستغسل الملابس وتعدّ الطعام وتكنس البيت وتغسل الصحون، وستجلس وحدها في المطبخ تحتسي القهوة وتبكي أمها والأحبة والغرباء، ثم ستموت بخفة ساحر لا يكشف سر مهارته في الاختفاء.. ستترك خلفها مجزرة الحياة وأخريات تلوح في الأفق، سأتسلل صباحاً إلى مطبخي، أحتسي قهوتي وحدي وقد أعدت لمرارتها طعم الملح، وأردد مواسية: "أمي مرهفة الحس وما كانت لتحتمل.. كم جميل أنك مضيت قبل كل هذا".
كُتبت التدوينة بتاريخ 20/11/2016