ستانلي كوبريك.. رواياتٌ مُغلقة باتّساع

26 يونيو 2017
(في كواليس "الوميض"، تصوير: موراي كلوز)
+ الخط -

ربّما لا يختلف اثنان حول اعتبار ستانلي كوبريك (26 حزيران/ يونيو 1928 – 1999) أحد أهم المخرجين السينمائيين الذين عرفتهم الشاشة الكبيرة خلال النصف الثاني من القرن العشرين. يمتلك كوبريك، لاعب الشطرنج المحترف في الأصل، دقة عالية في ما يتعلق باتخاذ قراراته الفنيّة. ولعل أكثر هذه القرارات جرأة وإثارة للاهتمام، هو اعتماد معظم سيناريوهات أفلامه على أعمال أدبيّة لم تكتب خصيصًا من أجلها؛ فباستثناء الأفلام الوثائقيّة القصيرة التي صنعها في بداياته، وأول فيلمين طويلين له: "الخوف والرغبة" و"قبلة القاتل"، فإن بقيّة أفلام كوبريك تعتمد على اقتباسات لأعمال أدبيّة ينتمي معظمها إلى نوع الرواية.

عمليّة تحويل الرواية إلى فيلم هي عمليّة شاقة بقدر كونها إبداعيّة، كما أنها تتطلب الكثير من الوقت أيضًا؛ فكان كوبريك، ومن يشاركه في الكتابة، يمضون وقتًا طويلًا في تحويل النص الروائي المكتوب إلى سيناريو سينمائي، لتستمر عمليّة الإعداد هذه لسنوات عدّة تسبق مرحلة الإنتاج وتسير معه أحيانًا. كثيرًا ما كان المخرج يعيد مراجعة السيناريو النهائي خلال مرحلة التصوير، معدلًا عليه ما ينبغي تعديله على صعيد الحبكة أو الحوار. هكذا، يفسّر الوقت الطويل الذي استلزم كوبريك لصناعة فيلم واحد، ضعف الإنتاج السينمائي لديه مقارنة بغيره من المخرجين السينمائيين.

يرى المخرج أن الرواية الأمثل لكي تتحوّل إلى فيلم، هي ليست الرواية الحافلة بالأحداث، وإنما تلك التي تقدّم دراسة عميقة للعوالم الداخليّة لشخصياتها، الأمر الذي يجعل المخرج حرًّا في ابتكار الحدث المناسب للمحتوى النفسي المطروح عبر الكتاب. ومن المثير للاهتمام، معرفة أن اختيار كوبريك لعديد من الروايات التي عمل عليها كان اختيارًا عشوائياً، فعندما سُئل عن آلية انتقائه لهذه الروايات، أجاب: "إنني أدخل إلى المكتبة، ثم أغلق عيني وأتناول الكتب من على الرف. وإن لم يعجبني الكتاب بعد قراءة القليل منه فقط، فلا أنهيه".

كوبريك ونيكلسون في كواليس "الوميض"


لم يكن كوبريك يبحث عن كتب لاقت رواجًا أو حققت نجاحًا تجاريًا، بل انطلق في اختياره للرواية من شعوره العميق تجاهها، الأمر الذي شبّهه المخرج بالوقوع في الحب. هذا الشعور بالضبط هو ما يلهم كوبريك خلال مجمل عمليّة صناعة الفيلم.

وفي كثير من الأحيان، كانت الحبكة الجيدة هي سبب اختيار كوبريك للعمل الروائي، فرواية "الوميض" The shining التي كتبها الأميركي ستيفن كينغ، وحولها كوبريك إلى فيلم في عام 1980 من بطولة جاك نيكلسون، لم تكن رواية عظيمة في نظر المخرج، لكن حبكتها كانت كذلك: "إن هذا هو معظم ما يحتاجه الفيلم من رواية ما".

أمّا المرحلة الثانية من عملية الاختيار؛ فكانت تقتضي تفكيك النص وتحديد الأسئلة التي ينبغي الإجابة عنها. لكن الأمر لا ينتهي هنا، بل يبقى السؤال الأهم هو في كيفية إيجاد المعادل البصري للنص المكتوب، وهو ما لا يتم الإجابة عنه قبل بدء عمليّة التصوير. لعلّ هذا الأمر هو أحد الأسباب التي جعلت كوبريك يعمل دومًا بشكل مستقل عن استوديوهات هوليوود ومنتجي الأفلام الذين أرادوا رؤية نص مكتوب يحتوي على كل شيء: "عندما يبدأ المخرج عمله، يطالبه المنتجون بكل شيء مدوّناً، فهم يريدون حوارًا جيدًا، حبكة مُحكمة، تطورًا دراميًا للأحداث؛ لكن ما وجدته هو أنه كلما كان الفيلم سينمائيًا أكثر، يصبح السيناريو أقل أهميّة، فالسيناريو لم يُكتب للقراءة، بل ليتم استلهامه عبر الفيلم".

لقد كانت الصورة بالنسبة له، كالمفردات بالنسبة للكاتب؛ فرأى كوبريك أن على المخرج أن يستعيض عن الكلمة المنطوقة بالصورة كل ما أمكنه ذلك. ومن هنا، يبرز اهتمامه بالسينما الصامتة التي يرى فيها نطاقًا سرديًّا أوسع من ذلك الذي تقدمه السينما الناطقة. كما أنه يكنّ الإعجاب ذاته بالنسبة لبعض دعايات التلفاز التي تستطيع خلال ثلاثين ثانية أن تُعرّف المتلقي بالشخصيات، إضافة إلى عرض المشكلة وحلها من دون نطق كلمة واحدة في بعض الأحيان.

نستطيع أن نرى هذا التوجه الإخراجي والجمالي في كثير من أعمال كوبريك، منها مشهد رمي العظمة الشهير في فيلم "2001: أوديسا الفضاء" (1968)، فالمشهد يعبّر عن نقلة زمنيّة في الفيلم، كما أنه يختصر الكثير مما كان يجب قوله حول تطور البشريّة وأسلحتها. وهو أمر لم يكن الكتاب ليفعله إلا عبر صفحات عدة.

التعديلات التي أجراها كوبريك على بعض الأعمال الروائيّة، أثارت استياء كتّابها رغم اعترافهم بالإبهار البصري الذي قدمه المخرج عبرها. خصوصًا الإنكليزي أنتوني برجس، صاحب "البرتقالة الآليّة" الذي عبّر عن ندمه على كتابة الرواية أساسًا؛ فاعتبر أن الفيلم (1971) أدى إلى سوء فهم الكتاب وتحويله إلى أسطورة تمجد العنف والجنس، كما أنه لم يركز على موضوعة الإرادة الحرة التي طرحها برجس من خلال الكتاب، خصوصًا مع نهاية الفيلم السوداويّة التي اعتمد فيها كوبريك نهاية النسخة الأميركيّة للرواية، الخالية من الفصل الواحد والعشرين الذي أكد قدرة الإنسان على التغير إن قرر ذلك فقط.

في كواليس "2001: أوديسة الفضاء"


الجدل ذاته حصل مع الأميركي ستيفن كينغ كاتب رواية "الوميض" الذي عبّر في مناسبات عدّة عن كرهه للفيلم واعتراضه على أداء الممثل جاك نيكلسون الذي استسلم للجنون منذ بداية الفيلم نتيجة تأثره بتجربة "طيران فوق عش الوقواق" التي لم يكن قد مضى عليها وقت طويل.

فجاك تورانس، بالنسبة لكينغ، هو رجل يصارع من أجل الحفاظ على عقله، لكنه يفقده في نهاية الأمر. كما أن الكثير من النقاد استهجن تحويل كوبريك لرواية "لوليتا" إلى فيلم في عام 1962؛ معتقدين أن جماليّة هذه الرواية تكمن في أسلوب فلاديمير نابوكوف النثري ليس إلا.

المقارنة التي يقيمها بعض المتلقين، أو حتى الكتّاب أنفسهم، بين أفلام كوبريك والأعمال الأدبيّة المأخوذة منها، هي مقارنة غير عادلة غالبًا. لا يُراعى فيها الاختلاف الجذري بين طبيعة هذين النوعين الفنيين. كما يُغفل فيها دور المخرج السينمائي ككاتب آخر، فالإخراج قد يُرى على أنه استمرار لعملية الكتابة.

كما أن طبيعة العمل السينمائي الجماعيّة، تجعله يمرّ عبر مراحل تشكيل متعددة؛ فيضاف إلى الفيلم شيء من روح كل مشارك في صناعته، على خلاف العمل الفردي الذي تقوم عليه عملية كتابة الرواية. وما يميز كوبريك كمخرج، هو عمله على مستويات مختلفة في روي القصة، من خلال توظيف العناصر المتنوعة المشكّلة للفيلم، كالموسيقى والإضاءة والأزياء وغيرها؛ الأمر الذي قد يُنتج عملًا سينمائيًا مغايرًا في أسلوب عرضه للعمل الأدبي، ومطابقًا له، بنسبٍ مختلفة، من حيث المحتوى.


المساهمون