ضمن فعاليات ملتقى "العقيدة والعقل" التي اختتمت أول أمس في تونس العاصمة، خُصّص اليوم الأول لتناول فكر الفيلسوف الهولندي باروخ سبيوزا (1632 – 1677) وهو الذي تُمثّل سيرته الفكرية والحياتية نقطة اصطدام بين الفكر الفلسفي والمعتقدات التي حكمت البشرية لقرون طويلة.
ألقى المحاضرة الافتتاحية للملتقى، يوم الخميس الماضي، المفكّر التونسي يوسف الصدّيق، باللغة الفرنسية، بعد تقديم موجز من قبل الطاهر بن قيزة، رئيس "مخبر الفيلاب"، منظّم التظاهرة، حيث أشار إلى أن ما مورس ضد سبينوزا لا يزال مستمراً بوسائل وصيغ مختلفة اليوم، مشيراً إلى أن قراءات الصدّيق في النصوص الدينية كانت سبباً لأن يواجه هو الآخر تهديدات وتضييقات مختلفة.
محاضرة الصدّيق تناولت علاقة سبينوزا (وكذلك معاصره لابنتيز) بالإسلام من زاوية نقدية، حيث يرى أنه لا ينبغي أن يعفينا كون الفيلسوف الهولندي (أو نظيره الألماني) يمثّل مرجعية أساسية في الفلسفة الدينية لنأخذ تعليقاته عن الإسلام كمسلّمات، إذ ينبغي العودة إلى المراجع التي اعتمدها سبينوزا في الحديث عن الدين الإسلامي، ليتطرّق هنا إلى الحديث عن نسخة من القرآن كانت معتمدة في القرن السابع عشر، معلَقاً بأن ترجمات القرآن وقتها كانت تتسم بسوء التعامل لأسباب حضارية وسياسية.
يشير صاحب كتاب "هل قرأنا القرآن؟" أن سبيوزا كتب بأن "الإسلام دين"، على عكس ما تقوله طائفته اليهودية أو الكنيسة. لكن المُحاضِر يرى أن هذا القول لا ينبغي أن يُؤخذ بالحماسة الدينية، إذ يعتبر أن مثل هذه المقولات وغيرها كانت تصدر من سبينوزا بحثاً عن السجال، لذا لا ينبغي أخذها على محمل الجد. يعتبر الصديق أن سبيوزا كان بخيلاً في الكتابة، ورغم ذلك قرّر الخوض في الإسلام من دون أن تكتمل دراسته له، لذا كانت أحكامه حوله فيها الكثير من التعميمات والأخطاء.
المؤاخذة الرئيسية للصدّيق هو أن سبينوزا لم يبحث عن الإسلام الأصلي، بل نظر للإسلام كما هو في العصر الذي عاش فيه، فاختلط الدين بالصورة التي تظهر عليها الإمبراطورية العثمانية كممثّل لها وقتها، وكانت تقدّم نظاماً استبدادياً بالفعل، وهذا الخلط أهدر كل فهم جدّي للإسلام عند سبينوزا.
هنا، ينفتح الصدّيق على قراءات معاصرة حيث يرى أن خطأ سبينوزا يتكرّر حتى لدى المسلمين أنفسهم، ولا عاصم من ذلك إلا العودة إلى القراءة بالمعنى الذي يطرحه "قراءة للنص وكأنه نزل اليوم"، ومن ثمّ "المشاركة فيه وإثرائه".
في نقاش محاضرته، سُئل الصدّيق عن تصريح سابق له قال فيه إن العالم الإسلامي في حاجة إلى عملِ مثل كتاب "رسالة في اللاهوت والسياسة" لسبينوزا، فأجاب "بأننا صرنا نحتاج إلى أكثر من "رسالة" واحدة "في الإسلام والسياسة".
المحاضرة الثانية المبرمجة كانت للمفكر الفرنسي ميشال فيشان بعنوان "التوافق العقلاني بين العقل والعقيدة"، والتي كان من المفترض أن يلقيها من باريس عن طريق السكايب غير أن صعوبات تقنية حالت دون ذلك.
وفي ورقة بعنوان "سبينوزا ورهانات لاهوتية وسياسية لفكر حارق"، تناول أستاذ تاريخ الأفكار والفلسفة السياسية في الجامعة التونسية، الأخضر سلطاني الفيلسوف الهولندي من زاوية الأحداث التي عايشها.
يشير سلطاني إلى أن سبينوزا كان مناصراً للفكر الجمهوري، واعتبر أن جرأة صاحب كتاب "علم الأخلاق" جعلت منه الفيلسوف المكروه والمنبوذ أكثر، ولكنه أيضاً الفيلسوف المُعجَبُ به أكثر.
يرى السلطاني أن سبيوزا لم يتردّد في الذهاب مباشرةً إلى أكثر الأسئلة إشكاليةً أمام الذهن البشري من المعتقدات إلى ظروف الحياة البشرية في العالم، وكان يحرّكه حبّ اطلاع روحيّ عميق، لذا كان مشروعه الأكبر "رسالة في اللاهوت والسياسة" مثل صراع مكشوف ضد السذاجة والادعاء الزائف والتحيّزات، ما أنتج ضدّه صداماً مزدوجاً مع السطات الدينية والسياسية، وصل إلى حد الحكم عليه بـ "النفي الأبدي" من الطائفة اليهودية.
يرى سلطاني أن هذا "النفي" ترك أمام سبينوزا خياراً وحيداً، وهو المضيء قُدُماً في مشروعه الفلسفي الذي يقوم على عقل حدسي صادق مع نفسه، وصولاً إلى القول بأن "الخالق لا وجود له إلا فلسفياً" وأن "الشرائع، ومنها اليهودية، ينبغي أن تستبدل" ليتحوّل فكر سبينوزا بعد ذلك إلى نقطة مؤرقة في الفكر الديني لا يمكن التغاضي عما طرحته من أسلة إشكاليةً.
في بقية جلسات الملتقى، دُرست مسألة "العقيدة والعقل" في أطر مغايرة مثل التاريخ العربي الإسلامي والراهن الأوروبي والعربي، ومن بين المشاركين منير بهادي من الجزائر قدّم محاضرة بعنوان "الفارابي ناقداً للفكر الديني في عصره" وعبد الرحمان التليلي من تونس بـ "العقل والنقل عند ابن رشد" وصابرين زغلول من مصر بـ "منزلة العقل في الخطاب الديني" حيث استدعت نموذج عالم الدين التونسي الطاهر بن عاشور (1879 - 1973) فيما تحدث زهير الخويلدي عن "هيرمينوطيقا العلمنة من خلال تقاطع المعرفة والإيمان عند بول ريكور"، واختُتم الملتقى يوم السبت بمحاضرة الطاهر بن قيزة تحت عنوان "أسلمة المعرفة".