بدأ حلف شمال الأطلسي حملة "تخويف وردع" لروسيا، بعدما شهد بحر البلطيق تنافساً شديداً. وفيما رأى البعض أن نشر الكرملين صواريخ إسكندر في كاليننغراد يذكر بالحرب العالمية الثانية، وجد الروس التحرك الأخير في البلطيق "سباقَ تسلح".
وقدّم المحلل الروسي، سيرغي سوخانكين، من كاليننغراد، دراسة للمجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية يعترف فيها بأن "الكرملين نشر صواريخ إسكندر في كاليننغراد، التي حولها إلى جزيرة عسكرية تذكرنا بالحرب العالمية الثانية. ونشر تلك الصواريخ لن يجلب الاستقرار". ورأى أن الكرملين "يريد تحويل بحر البلطيق إلى بحيرة روسية، بما يذكرنا بمشاريع الاتحاد السوفييتي في المنطقة. ثم نحن الآن أمام استراتيجية البيضة أولاً أم الدجاجة أولاً، وذلك بالإشارة الملتبسة إلى عمّن بدأ سباق التسلح والنزاع".
في المقابل، يرى الروس في التحرك الذي يجري في البلطيق "سباقَ تسلح". وكانت قد جرت في أستوانيا مناورة عسكرية هذا الأسبوع، حملت اسم "عاصفة الربيع 2016"، وانتهت إلى تخريج دفعة من الجنود. دعي إلى هذه المناورة مجموعة من دول الأطلسي، وجرى استعراض العتاد العسكري الحديث لهذه الدول تحت بند "ضيوف". وهو الأمر الذي أقلق موسكو كثيراً، ودفعها إلى التوجس من التحركات المتسارعة وتزايدها في البلطيق. ورأى سوخانكين أن "الكرملين يلعب لعبة: إنهم يكرهوننا"، لمزيد من الاصطفاف الشعبي خلف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، فيما يمنح قيام الأطلسي بنشر المزيد من الدروع الصاروخية والتسابق نحو التسلح روسيا الفرصة للقيام بتحركات عسكرية كبيرة ومشروعة.
غير أن الروس أنفسهم، على الأقل منذ عام 2014، كانوا ينشطون بطريقة مريبة في بحر البلطيق، حتى وصل الأمر مرات عدة إلى حدّ وقوع كارثة تصادم جوي بين طائرات سويدية ودنماركية في الوقت، الذي كانت فيه الغواصات تخترق المياه الإقليمية حتى استوكهولم نفسها.
ووفقاً لما تقوله جودي ديمبسي، من معهد "كارينغي أوروبا" لصحيفة "إنفارماسيون" الدنماركية، فإنه "منذ غزو القرم، باتت التدريبات فرصة للتعاون بين دول الأطلسي والدول التي ليست عضواً فيه في الإقليم". وتصف ديمبسي الوضع في منطقة البلطيق بأنه "تحول إلى برميل بارود، أصبحت الدنمارك جزءاً منه".
وكانت صحيفة "بوليتيكن" الدنماركية قد كشفت، الخميس الماضي، عن خطة لحلف الأطلسي تقضي بنشر آلاف الجنود من البلطيق إلى بولندا وصولاً حتى بلغاريا، بمشاركة بضع مئات من الجنود الدنماركيين مع أسلحة ثقيلة، إضافة إلى 4500 جندي أميركي. ويرتقب أن يضع قادة حلف شمال الأطلسي، خلال القمة المرتقبة في وارسو بعد شهرين، في يوليو/ تموز المقبل، اللمسات الأخيرة على ما يسميه عسكريون "إحكام طوق حماية البلطيق".
وبدأت دول البلطيق، ومعها بولندا وفنلندا، تشعر بتهديد روسي متعاظم، بل يصفه كبير المحللين العسكريين في أكاديمية الدفاع الدنماركية، أولا كفيرنو، بـ"تهديد وجودي تمارس فيه روسيا حروباً تشمل حرباً هجينة"، في إشارة إلى استخدام الروس مقاطعة كاليننغراد (بين ليتوانيا وبولندا بإطلالة على البلطيق)، كمنطلق لاستراتيجية عسكرية تجمع بين الاستعراض العسكري التقليدي، من طائرات وغواصات وسفن حربية مرئية، والحرب "السيبرانية" برسائل تهديدية تأخذ طابع حرب معلومات ونفسية مرهقة، بديناميكيات معقدة، يريد الروس من خلالها إقلاق دائم لدول تضم جاليات روسية كبيرة.
ولا يخفي الروس أنهم ينشرون الآن في كاليننغراد صواريخ إسكندر، ليراها الحلف عن قصد كرد على تقوية دول البلطيق لتحالفاتها وتسلّحها المستمرين، ولإيصال رسالة مفادها بأنه إذا ما أراد الكرملين اجتياح دول بعينها في البلطيق، فلن يردعه الأطلسي.
في المقابل، ترى دول البلطيق أن الطلسي غير قادر على تقديم "بوليصة تأمين" جدية في وجه روسيا وأطماعها، بعد كل الذي جرى في أوكرانيا وسورية. ودفع هذا التشكيك، في قدرة الحلف على ردع موسكو، إلى اعتماد هذه الدول على التحصينات الداخلية، وعقد صفقات مع دول قريبة في البلطيق.
واعتبر كفيرنو أن استراتيجية ردع الروس تتطلب "الدفع بالمزيد من الجنود، لإظهار الجدية. ولكي لا تنفلت الأمور، يجب أن يترافق ذلك مع خطاب سياسي عن أن ذلك الانتشار دفاعي فقط".
من جهتها، تبدو الدنمارك، كبلد صغير في الحلف، مضطرة، وفق محللين عسكريين، إلى التسلح بالبند الخامس من معاهدة الحلف، والذي يلزم الدول بتقديم دعم لدولة عضو. وهو ما تحاول فعله مع دول البلطيق على اعتبار أنه "يمكن أن تحتاج بنفسها يوما ما لمن يطبق البند الخامس لمساعدتها في حال شعرت باعتداء خارجي قادم باتجاهها".
وسبق أن قام الروس في عام 2014 بمحاكاة هجوم على جزيرة بورنهولم الدنماركية، والرسالة الروسية حينها كانت واضحة:"بحر البلطيق منطقة نفوذنا". لم تكن دول البلطيق تشعر بتهديد روسي حقيقي، إلى أن غزا الروس القرم وشرق أوكرانيا.
ومنذ غزو القرم وحتى تاريخ الانخراط الروسي في الحرب السورية، لم تعد صورة موسكو أقل سوءاً مما كانت عليه، ويبدو أن سباق التسلح، والحرب الباردة، ساخنة الهواء، بالتحليق المكثف لطائرات حربية واستقدام بواخر عسكرية، ليس في حالة من التراجع. البعض يعتبره محاولة روسية للدخول في مفاوضات لمقايضة ما مع أوروبا، تبدأ من شرق المتوسط جنوباً، وحتى القطب الشمالي في أقصى الشمال.
في المقابل، يرى خبراء آخرون أنه على المدى الطويل، فإن تدخلات بوتين عبر حروبه النفسية في الانتصار لأحزاب اليمين المتطرف ستنقلب عليه في النهاية، فالرأي العام، بمن فيه اليسار الأوروبي، ليس معجباً بما يطلقون عليه: "استعراض عضلات العجوز الروسي".