تستعد الأحزاب والشخصيات السياسية التونسية لحسم خلافاتها ومنافساتها في الموعدين الانتخابيين المقبلين، المحلية نهاية العام الحالي، والتشريعية والرئاسية في 2019. ويبدو أن الجميع أصبح يستعجل هذا الحسم، ويحاول استباقه بشكل ملحوظ، خصوصاً ما يتعلق بالتشريعية والرئاسية، لقدرتها على كشف خبايا هذه الخلافات ومضامينها السياسية والفكرية. ويبيّن المشهد التونسي الحالي، بما لا يدع مجالاً للشك، أن هناك شروخات كبيرة في المجتمع السياسي التونسي، وانقسامات حقيقية أفرزتها الانتخابات الماضية، وخلقت حالة من القلق الواضح لدى الجميع، الفائزين والخاسرين على حد سواء، وهو ما يتضح جلياً في مناقشة كل الملفات التونسية الهامة، التي تستوجب حداً أدنى من التوافق العام، لم يحصل حتى الآن.
وقد يعتبر بعض المراقبين أن هذا الوضع طبيعي، لعدم استقرار المشهد السياسي بشكل نهائي، بسبب عدم اكتمال تشكل بعض الأحزاب، وطرح أخرى لقضايا كبرى تتعلق بنشأتها وتطورها في ظل ظروف إقليمية ودولية متحركة، وانقسام البقية حول أساليب إدارة الأحزاب وصراع الزعامات والتيارات داخل الحزب الواحد، بالإضافة إلى وجود أكثر من 200 حزب، سيندثر معظمها لإفراز عائلات سياسية موحدة سيدور التنافس بينها. وبرغم أن هذا المشهد المضطرب والمتقطع قد انعكس على أداء الدولة، بما له علاقة بالحياة اليومية للناس، وقاد إلى مشاكل اجتماعية واقتصادية كبرى أصبحت تهدد مصير الديمقراطية الوليدة، فإن الرهان السياسي الذي يسيطر، كما يبدو، على الذهنية الحزبية التونسية بشكل كبير، جعلها تضع التنافس على رأس أولوياتها، وتغفل حاجات التونسيين، التي قامت الثورة من أجلها، وربما تدفع جميعها هذا الثمن الباهظ إذا نفد صبر الناس.
وللحقيقة فإن هذا المشهد قد تشكّل منذ إعلان نتائج انتخابات 2014، بعد فوز "النداء" و"النهضة" بغالبية مقاعد البرلمان وإعلان تحالفهما معاً، وقاد الباجي قائد السبسي إلى قصر قرطاج، وهو ما أفرز مشهداً يبدو في الظاهر برأسين: حكومة ومعارضة، لكنه في الحقيقة يخفي انقسامات جزئية أخرى داخل هذين المعسكرين. وسرعت الأوضاع التي يشهدها الحزب الأول "نداء تونس" من رغبة الطامحين في دخول قصر قرطاج، وكذلك المشاكل التي تخبطت فيها حكومتا الحبيب الصيد ويوسف الشاهد، خصوصاً على المستوى الاقتصادي الصعب. وبرغم أن سنتين تفصلان التونسيين عن هذا الموعد، إلا أن بعض التصريحات المنفلتة والمواقف الأخيرة تبيّن وجود رغبة شديدة في استعجال هذا الحسم. ويبدو أن طابور الراغبين في دخول قصر قرطاج، وتولي رئاسة البلاد، طويل جداً، برغم أن المنافسة تنحصر حتى الآن في الشخصيتين المتنافستين في 2014، وهما الرئيس الحالي، الباجي قائد السبسي، والرئيس السابق، المنصف المرزوقي، بحسب ما تبينه كل عمليات سبر الآراء. إلا أن القائمة طويلة جداً، وتتضمن شخصيات أخرى من حقها أن تطمح لاعتلاء هذا المنصب، وهي لا تخفي هذه الرغبة. وأثارت عودة رئيس الحكومة الأسبق، مهدي جمعة، إلى الحياة السياسية أجواء التنافس الرئاسي، وهو الذي كان يطمح للترشح في انتخابات 2014 لولا المعارضة القوية لاتحاد الشغل، استناداً إلى اتفاق خارطة الطريق المتفق حولها في الحوار الوطني، الذي كان يمنع ترشح أي من أعضاء الحكومة إلى أي انتخابات وقتها. وأكد جمعة، في تصريحات لمناسبة الإعلان عن حزبه الجديد "البديل التونسي"، أنه سيكون رقماً هاماً في المعادلة السياسية في البلاد، لافتاً إلى أن "التونسي فقد الثقة بالعمل السياسي، ومرّ من مرحلة الأمل إلى خيبة الأمل، وهو يبحث عن بصيص للأمل ولم يجده". وأكد جمعة أن حزبه سيكون جاهزاً لكل الاستحقاقات المقبلة، وهو ما يعني ضمنياً تجديد رغبته في لعب دور هام في المشهد التونسي، بما فيه العمل على دخول قصر قرطاج.
وفي السياق ذاته، قال مؤسس حزب "آفاق تونس"، ياسين إبراهيم، في تصريح صحافي على هامش انعقاد مؤتمره الثاني، إنهم "مقربون من الأحزاب الوسطية، ونؤمن بأنّ التحالفات للبلديات ضروري، سواء الأحزاب السياسية أو المستقلين... وأنّ رؤية الحزب ترتكز بالأساس اليوم على المجالس البلدية والانتخابات التشريعية، وفي صورة عدم تقدم مرشح من آفاق للرئاسة في 2019 فإنه ربما سيقوم بدعم مرشح من خارج الحزب... ومن الممكن أن نرشّح جمعة أو غيره''. وتعكس تصريحات إبراهيم بداية تفكير الأحزاب في الانتخابات الرئاسية، وتقييمها للمشهد التونسي بخصوص هذا المسار بالذات، إذ تتردد أحزاب كثيرة بشأن ترشيح واحد منها لهذا الاستحقاق. وتدور حالياً نقاشات كثيرة داخلها حول هذا الموضوع، ومن أبرزها حزب "حركة النهضة" التي تختلف شخصيات داخله حيال إمكانية دعم مرشح من خارج الحزب للرئاسة، في حين يطرح آخرون تساؤلاً مشروعاً جداً حول إمكانية تقديم مرشح "نهضوي" إلى قصر قرطاج. ووصل النقاش إلى حد طرح مسألة ترشيح راشد الغنوشي نفسه إلى هذا الاستحقاق، برغم استبعاد قيادات كثيرة لهذا الأمر.
ومثلما أثارت عودة جمعة هذه المواضيع، فقد أثارت عودة أحمد نجيب الشابي، مؤسس الحزب الديمقراطي التقدمي، الذي تحول اسمه بعد الثورة إلى "الجمهوري"، الرغبات نفسها، وهو الذي كان أخفق أيضاً في انتخابات 2014. ولا يخفي جمعة رغبته الكبيرة في خوض هذا الاستحقاق، وذلك بعد انفصاله عن الحزب الجمهوري، وهو يبحث عن إطار سياسي جديد يمكّنه من تحقيق الفوز هذه المرة. وبرغم أننا لم نتعرض لبقية المتنافسين الجديين إلى هذا الاستحقاق، وأهمهم الرئيس السابق، المنصف المرزوقي، الذي يرفض باستمرار تأكيد ترشحه، برغم أن الجميع يتوقع هذا، والشخصية التي سيختارها "نداء تونس" أو ربما سيختارها السبسي نفسه، وهي على الأرجح رئيس الحكومة الحالي، يوسف الشاهد، فإن جملة منفلتة من وزير التعليم، ناجي جلّول، أثارت استغراب عدد كبير من التونسيين، إذ أعلن صراحة أنه "يساند ترشح الباجي قائد السبسي لولاية ثانية". وبرغم أنه تصريح يعكس بحثه عن دعم سياسي لبقائه في الحكومة في ظل التهديد باستبعاده بسبب صراعه المعروف مع النقابيين، وهو أمر محسوم تقريباً، إلا أنه أثار جدلاً كبيراً حول توقيت التصريح، وربما حرّك لدى البعض سؤالَ: لمَ لا؟ وفي كل الحالات، يبدو أن الجميع في تونس لم يتخلص بعد من انتخابات 2014 ونتائجها. وربما يستحوذ الثأر الانتخابي واستئناف المنافسة على تفكير الجميع، وخصوصاً أن عدد الطامحين، كما بيّنته تلك الانتخابات، كبير جداً، وربما يكون أكبر في هذه الانتخابات.