يحتال الأكاديميّ النيوزلندي سايمون ديورنغ (1950) على وعورة البحث في جذور وتاريخ الدراسات الثقافية، من خلال استبداله الطرق التقليدية في البحث، بما أطلق عليهم أسلاف هذه الدراسات ومصادرها والممارسين المنصرمين لها.
في كتابه "الدراسات الثقافية: مقدّمة نقدية" (عالم المعرفة) الصادر حديثاً بترجمة ممدوح يوسف عمران، يذهب ديورنغ إلى أن للدراسات الثقافية مكاناً في أعمال ظهرت في أطر مؤسساتيّة مختلفة وذات اعتراف ضئيل نسبياً، أنجزها فرانز فانون وجورج أورويل وفيرنادنو أورتيز، إضافة إلى وجود بذور لها في مؤسسة الدراسات الثقافية الأكاديمية المعاصرة التي وفّرها "الأسلاف" توجيهاً ورعايةً لطلاب الدراسات الثقافية اللاحقين.
بينما قدّم من أطلق عليهم مفهوم "المصدر"؛ أي المنظرين الأكاديميين، الأفكار لهذا الحقل، رغم أن مشروعهم وتخصّصهم العام يقع خارج هذا التخصّص، مثل بارت ودولوز وفوكو، حيث يصف المفهوم الأخير بأنه أكثر إرباكاً من مفهوميّ "السلف" و"الممارس".
يستدرك ديورنغ، في كتابه، أنه تعامل مع الدراسات الثقافية في عمله على أنها متّحدة، إلا أن الواقع يؤكّد أن ثمّة أشكالاً مختلفة لهذه الدراسات، كما أن لاستخدامات المصطلح نفسه طرقاً متنوعةً.
إذ إنَّ المصطلح الذي ظهر كنتيجة للمُنادين بالدمقرطة ضد النخوبية والسيطرة في ستينيات القرن العشرين وسبعينياته، أو بوصفه نتيجة تلاقي "اليسار الجديد" مع الثقافة الشعبية، بحسب وصف الأميركي مايكل دينينغ، صار يتبنّى تعريفاً أوسع للثقافة؛ ليشمل ما أغفلته الدراسات الأكاديمية، من دراسة الأدب ونظريته إلى ممارسات المجتمع، بتركيز واضح على "المعاصر" منها الذي "يبدو أنه أضخم مما كان عليه في أي وقت مضى"، مقارنةً بالأجيال السابقة، والذي يتناوله ديورنغ من خلال نظرية "ما بعد الحداثة" التي لجأ إلى تقديم إيجاز لها، كونها أكثر نظرية تمحّص فيه.
ومع إقرار ديورنغ، المختص بالأدب الفيكتوري، أن هناك أشكالاً وأنساباً مختلفة في العالم للدراسات الثقافية؛ إلّا أنه يعترف أن عمله هذا يميل إلى الرجوع نحو ما أُنتج في الأمم الإمبريالية وتحديداً "الأنجلوفونية"؛ إذ إن تيّارات المعرفة ليست وحيدة الاتجاه - من المركز باتجاه الخارج - بيد أن ذلك لا يعني أن هذه المراكز لا تمارس قوة جذب نحو المركز حتى في مقاومة المركزية الأوروبية.
تركة النسوية، الجُنوسة اليوم، إحدى الموضوعات التي أفرد لها المؤلّف حيّزاً واسعاً من عمله، ويحصره تقريباً في الداخل الأميركي وبريطانيا، إضافة إلى تطرّقه إلى الثقافة الشعبية - أحد مجالات بحث الدراسات الثقافية - التي يصفها بأنها تعمل على زعزعة الانحياز الأكاديمي نحو الرزانة، بسبب نزوعها إلى الحضور لمدة قصيرة.
وفي حين يرتبط المشتغلون بالثقافة الأكاديمية بالسلطة، تظهر الثقافة الشعبية كمضاد للسلطة. فقد اعتمدت الثقافة العليا، كما يسميها، على التعليم الأرستقراطي والنخبوي الكلاسيكي كتعلم اللغات اللاتينية والإغريقية، فيما ذهبت الثقافة الشعبية، التي ظهرت أواسط القرن الثامن عشر، إلى تغير في تلك البنية.
بحذرٍ، يتنقّل ديورنغ محاولاً اجتناب الوقوع في مغناطيس الخطاب الكولونياليّ، الذي يعترف أن عمله هذا مثل كثيرٍ من الدراسات الثقافية ما هو إلا صيغة أكاديمية مرتبطة إلى حد ما - رغم أنفها - مع الاقتصاد الحر والليبرالية الجديدة، إضافة إلى كونها مثل العديد من الأعمال التي تبحث في هذا الشأن، خرجت من مراكز الخطاب الكولونيالي في العالم وتحديداً من المملكة المتحدة.