"بلاثا مايور" أو ما معناه بالعربية الساحة الكبرى، وهي فعلا ساحة كبيرة في قلب مدريد، لها تسع بوابات تقول لك تعال إلي أيها الزائر، فأنا صدري واسع يسع الكثيرين مع أفراحهم ودهشتهم مع لوحاتهم وألوانهم التي لا تجف.
للساحة شكل مستطيل تحيط به منازل متلاصقة منسجمة لها نفس الإيقاع والروح. يعطيها اللون الأحمر سحراً وخصوصية لا يتكرران، تشعر حين تدخلها أنك تدخل فترة محددة من التاريخ، وتشعر أنك سكنت وعشت تلك الفترة. كل الأبنية فيها مبنية على الطراز الكلاسيكي الحديث، إذ يلاقيك في هذه الساحة مائة وستة وثلاثون منزلاً، تحتوي على أربعمائة وسبع وثلاثين شرفة تطل على الحياة.
يتربع التاج الملكي الإسباني فوق إحدى واجهاتها، وتحته بين كل نافذة وأخرى تباغتك لوحات مذهلة الدقة والجمال، كل لوحة هي تحفة ستقف كثيراً أمامها، قبل أن تسحبك لوحة أخرى نحوها.
تتسع هذه الساحة لأكثر من مائة ألف شخص، وأول من استخدمها كان العرب أثناء الحكم الأندلسي لإسبانيا؛ إذ كانت سوقا كبيراً لعرض كل أنواع منتجاتهم وبعدها في عام 1617 أكمل إنشاء الساحة على شكلها الحالي، وعادت واستخدمت مكاناً لعمليات الإعدام التي لا تنساها شرفاتها، لكنها بعد ذلك أصبحت ساحة لمصارعة الثيران الشهيرة في إسبانيا، ولفترة طويلة زها فيها المصارعون بأنفسهم، وأنّت الثيران المسكينة الجريحة فيها.
جذور عربية
الحضور العربي قديم في الساحة قدم وجودهم في مدريد، لغاية عام 1085، عندما سيطر عليها الملك ألفونسو الرابع ملك قشتالة أثناء زحفه إلى طليطلة، وتم ترحيل العديد من سكانها المسلمين واليهود وتحويل مسجدها كنيسة. حوصرت المدينة مجددا في عام 1109 من قبل قوات المرابطين، بقيادة علي بن يوسف بن تاشفين، إلا أنهم فشلوا في الاستيلاء عليها.
وأخذت مدريد لقب مدينة سنة 1123، وظلت أسوارها إلى غاية اليوم شاهدا على الوجود العربي الإسلامي في إسبانيا، حيث كانوا أول من بناها.
اقرأ أيضاً: سباق إسرائيلي إيراني وكويتي على شراء حبل إعدام صدام
وفي 1329 اجتمع الكورتيس دي كاستييا، أول جمعية وطنية (برلمان) في مدريد، لتقديم المشورة للملك فرناندو الرابع. مع إنشاء البرلمان في مدريد، بدأت المدينة في النمو بصورة سريعة. حتى تلك الفترة وقبل سقوط الأندلس بالكامل عام 1492، ظل العرب والمسلمون يعيشون في المدينة، ولكن بأعداد محدودة، فقد تم بعدها طردهم من المدينة في أواخر القرن الخامس عشر.
قبلة السياح
أما الآن فهي قبلة لأكثر من خمسين مليون سائح يدخلون إسبانيا سنوياً، وهي أجمل مكان لإقامة الاحتفالات الرسمية ولإقامة المعارض الفنية التي تعيدك إلى نفسك عند كل لوحة. تقع "بلاثا مايور" جنوب ساحة "بويرتا ديل سول" أو ساحة الشمس في وسط مدريد، وعليك أن تمر من إحدى بواباتها التي تعلوها نقوش حجرية ورسوم لملائكة تحرس هذه البوابة، لذا سيكون عليك أيضا أن تحني روحك كي تدخلها.
لبواباتها حضور بوابات دمشق، وللحارات الضيقة التي تحيط بالساحة نبض حارات الشام القديمة، لكنّ للساحة حضوراً أوروبياً فريداً، تجتمع فيها في صيف إسبانيا المشمس والجميل الفرق الموسيقية من كل أنحاء العالم، لتعزف ما نقله الإنسان على الآلات، ويقف في وسطها تمثال للملك فيليب الثالث على جواده حارساً أميناً لتاريخ الساحة وطعم الحياة فيها.
سوق شعبي
في كل أسبوع يقام في هذه الساحة سوق شعبي، يعيد صوت الباعة القديم، حين كان العرب يفرشون بضاعتهم، هنا يزور هذا السوق عدد كبير من سكان مدريد ومن السياح، ويقدم فيه كل ما يخطر على البال من ملابس ومصنوعات يدوية وبأسعار منافسة وبطرق تقديم ذكية.
اقرأ أيضاً: هذه الأفعال "العادية" قد تقودك للإعدام في كوريا الشمالية
حين تزورها، لا بد لك أيضا أن تلقي السلام على مخبز كاسا ديلا بندرياكوته، وهو من أقدم مخابز العالم أنشئ على يد المعماري دييغو سيليرو في عام 1581، وقد أكلت النيران جزءا كبيرا منه، لكنه أعيد ورمم ليأخذ شكله الحالي الرائع في عام 1992، ولتبقى رائحة الخبز فيه تحمل رائحة الأيدي التي زرعت القمح وحصدته، ليبقى دليلاً على قوة إيقاع الحياة.
تنتشر فيها الآن المقاهي والطاولات، والتي تقول لك اجلس قليلا في هذا الجمال، وخذ استراحة من دهشة ومتعة ومن إلفة وود طافحين بالشمس، واترك ملامحك ليعيد لك أحد الرسامين هنا رسمها من جديد.
اقرأ أيضاً: حين همست مدريد