سؤال كبير ... كيف تشكّلت داعش؟ (2-2)
استطاع تنظيم الدولة الإسلامية في العراق وبلاد الشام "داعش"، أن يمتلك قوة عسكرية، ويحقق امتداداً جغرافياً، ويوفر كماً لا يستهان به من التمويل والتسليح، إلى جانب كسب آلاف الأنصار والمقاتلين، ونجده اليوم حاضراً في نقاشاتٍ ومحاولات فهم متعددة، لذلك، وفي هذا الجزء من الورقة، وهو الثاني والأخير، سأحاول الإشارة، بشكل مختصر، إلى مسائل أحسب أنها ساهمت في ظهور هذا التنظيم بالشكل الذي نراه اليوم:
1- لتنظيم الدولة الإسلامية تاريخ معتبر في العراق، مَنَحهُ شرعية فكرية وميدانية، لا ينافسه عليها أي تنظيم جهادي في منطقة أخرى في العالم الإسلامي، خصوصاً أن الوجود الميداني العملي والهيمنة لسنين على مساحات واسعة من الأرض يضفي على التنظيم مشروعية واقعية، كثيراً ما تتجاوز في تأثيرها المشروعية النظرية والتراتبية التنظيمية في سُلّم الحركة الأم "قاعدة الجهاد". لذلك، حين انتقد زعيم تنظيم القاعدة، أيمن الظواهري، دخول الدولة الإسلامية سورية، ودعاها إلى العودة إلى العراق، كان رد قيادات شرعية وإعلامية لتنظيم الدولة الإسلامية يرتكز على استعراض النجاحات والصعوبات والمواجهات التي عانى منها تنظيم الدولة، طوال ما يقارب العقد من وجوده في العراق، والدور المحدود، أو المعدوم، لأيمن الظواهري في هذا التأسيس. لذلك، اعتبروا أنه لا يملك الحق في فرض رأيه على تنظيمٍ لم يُسهم في صُنع نجاحاته، ولم يتحمل شيئاً من عبء تأسيسه ومواجهاته.
2- وامتداداً للفقرة السابقة، استطاع تنظيم الدولة الإسلامية أن يصنع، وعلى مدى سنين، حضوره وجمهوره وجاذبيته ومشروعيته الجهادية، لا على الشهادات والتزكيات المقدمة من القيادات التاريخية للسلفية الجهادية، ولا على "صحة الموقف الشرعي"، بل على "وهج الإنجاز"، وعلى اقتراب تحقيق الحُلم الجامح في المخيلة النضالية لشباب الجهاد بتأسيس "دولة الإسلام". (مثلاً تنظيم القاعدة استطاع في الشهور التي تلت حصول "منجز" 11 سبتمبر أن يكسب كوادر ومنتمين له، أضعاف الذين استطاع اكتسابهم في عدة سنين، سبقت "11 سبتمبر" عبر الإقناع السياسي والشرعي، كل ذلك بسبب "وهج الإنجاز"). لذلك، لن تجد أن المنتمين لتنظيم الدولة الإسلامية معنيون كثيراً بالتنظير الشرعي لمواقفهم وأفعالهم، أو مهمومون بالجدل حول مسائل العذر بالجهل وإقامة الحُجّة ونواقض الإسلام وأحكام الردة، بقدر ما هم مهمومون بمطاردة خيال "إمبراطورية الخلافة" التي يُريدون أن ينفخوا في جسدها الروح من تحت ركام التاريخ، ويسعوا إلى إعادة رفع لوائها من جديد، ولو كان على جبلٍ من جماجم "إخوة المنهج".
وهذا ما يُفسر وجود أعداد كبيرة من المهاجرين غير العرب "شيشان وأوروبيين وسواهم" في صفوف تنظيم الدولة، وهم لا يتكلمون العربية، مما يشير إلى أن دوافع وجودهم مرتبطة "بالإيمان والوجدان" أكثر ارتباطها بالقناعة الشرعية.
3- الحروب بطبيعتها تمثل قمة الانفعال الوجداني والاستعداد النفسي لتبني أكثر الأفكار راديكالية وتشدداً. لذا، نجد أن بلداً، مثل سورية، كان خالياً من الوجود المنظم للإسلام السياسي طوال عقود، وفي الوقت نفسه، كان الخطاب العلماني هو الحاضر الوحيد في عمل المؤسسات ووسائل الإعلام الرسمية، إضافة إلى وجود تنظيماتٍ يساريةٍ وقوميةٍ، لها تاريخ طويل في الساحة السورية. ومع ذلك، حين بدأت الثورة، وبعد عامٍ من تحول الاحتجاج السلمي إلى عمل مسلح، ساد الفكر السلفي معظم الفصائل المقاتلة في سورية، وبدا سلوك "المزايدة في التشدد" ينمو كممارسة اعتيادية عند المنتمين لهذه الفصائل (بعض قادة أكبر الفصائل الثورية كانوا يُعلنون في بداية العمل المسلح أن مقصد ثورتهم وقتالهم هو التخلص من النظام الاستبدادي وبناء دولة ديمقراطية. لكن، بعد شهور، وبسبب تنامي الحالة السلفية، صار التصريح بذلك متعذراً، ويجرُّ على قائله مسرداً طويلاً من الاتهام والتكفير والطعن، وبات الهدف المُعلن للعمل المسلح عند معظم الفصائل هو "تطبيق الشريعة" و"بناء دولة إسلامية"، وغدت الديمقراطية نظاماً كفرياً، لا يتناسب مع بلدٍ مسلم. ومن زار المناطق المحررة واستمع لخطاب بعض الكوادر المقاتلة، يلمس بوضوح حجم الضغط المعنوي الذي يمثله الخطاب السلفي، حتى أنك قد تجد مقاتلين غير ملتزمين بأداء الصلاة، ومع ذلك هو يُصرّ على إعلان سلفيته!). فكان الفكر السلفي، بجرعاته المفرطة في اليقينية وخطابه الجهادي التضحوي، البيئة الملائمة للعمل المسلح ضد نظامٍ طائفيٍ، لم يتوانَ عن حشد كل أنصار الطائفة في مقاتلة خصومه "التكفيريين".
4- وفي مقابل هذا السياق، وفي أثناء التصاعد المستمر لمؤشر البوصلة الفكرية في المناطق المحررة، باتجاه مزيدٍ من التشدد، كان الجناح السوري في تنظيم القاعدة "جبهة النصرة" يأخذ اتجاهاً معاكساً، ويتقدم بخطواتٍ نحو الاعتدال، حيث قرر التحالف مع الفصائل الثورية الأخرى، والاهتمام بالحاضنة الشعبية، وتأجيل "تطبيق الشريعة والحدود"، وإعلان أن هدف قتالهم هو "نصرة الشعب السوري المستضعف" لا "تأسيس دولة". ذلك كله تم وسط حربٍ شرسةٍ، قادها النظام السوري، وقصف مستمر بالبراميل المتفجرة، وحشد ميليشياتٍ طائفيةٍ من دول أخرى، وارتكاب عشرات المجازر، في مناخٍ دموي وفّرَ بيئة ملائمة للمزاودة بالتشدد.. فكان تمدد "الدولة الإسلامية"، عند المهاجرين خصوصاً، على حساب "جبهة النصرة" متوائماً مع المناخ العام الذي يدفع باتجاه مزيدٍ من الغلو لا الاعتدال.
5-لا يمكن تفسير مقدار التوحش والعنف والساديّة والقتل على الهوية والإعدامات الجماعية وقطع الرؤوس والتمثيل بالجثث وتعذيب الأسرى والصلب الذي يمارسه تنظيم الدولة الإسلامية، من دون الحديث عن ظروف نشأة هذا التنظيم في العراق، وذلك لأن كل هذا التوحش الذي نراه، اليوم، في الساحة السورية، مجرد نقل جغرافي للأفعال ذاتها التي مارسها التنظيم في العراق، وكذلك لأن شخصيات الصف الأول في قيادة هذا التنظيم، وشخصيات كثيرة من الصف الثاني هم من العراقيين.
ولأن العراق عاش عقوداً صعبة من العنف والاضطهاد والحروب والفقر والقتل على الهوية، لم تبدأ بتعاقب أنظمة ديكتاتورية، مارست أبشع أشكال القمع والتدمير المعنوي للمواطنين وعسكرة المجتمع، مروراً بالحرب العراقية الإيرانية، ثم حرب الخليج التي أعقبها حصار اقتصادي خانق، فاحتلال أميركي أمعن في القتل والتعذيب، وليس آخرها تسليم البلد لنظام طائفي قمعي، دفع باتجاه قيام حرب طائفية دموية، قتلت عشرات الآلاف وهجّرت الملايين. ذلك كله انعكس، من دون شك، في أعماق تكوين الشخصية العراقية، وحقن التوحش والعنف عند فئاتٍ واسعةٍ من هذا المجتمع، يتجلى، أحياناً، تحت لافتة تنظيم الدولة الإسلامية، وأحياناً أخرى تحت لواء الميليشيات الشيعية التي لا يختلف مقدار توحشها عن ذلك القدر الذي يمارسه مقابلها السني. فالتوحش، هنا، ليس مرتبطاً فقط بنزعات ساديّة فردية، بل بـ "إستراتيجية عليا" شرّعها وانتهجها هذا التنظيم. لذلك، يتم دوماً تصوير عمليات القتل البشعة ونحر الرؤوس ونشرها عبر يوتيوب، بهدف ترويع الآخرين. وقد نجح تنظيم الدولة الإسلامية في ذلك بوضوح، حيث لا تجد تفسيراً منطقياً لهروب بعض الفصائل من مواجهتهم، وبيعة فصائل أخرى هم أبعد ما يكونون عن أيديولوجيا تنظيم الدولة، وكذلك هروب قوات النظام العراقي، كما في الموصل، وقوات البيشمركة، كما في سنجار وبادوش، إلا أنهم بالفعل "نُصروا بالرعب".
في مقاله المشار إليه في الجزء الأول من الورقة، يقول عزمي بشارة، في سياق حديثه عن الكيفية التي يتكوّن بها الإنسان في بيئةٍ عاشت ظروفاً صعبة ومتلاحقة، كما في العراق: (يمكننا، مثلاً، أن نتخيّل إنساناً مر بأهوال سجون حكم البعث العراقي أو السوري، ثمّ عاش في ظل الاحتلال الأميركي الهمجي، وحاربه، ثم ذاق مرارة السجن في ظل نظامٍ طائفيٍّ سياسيٍّ بغيض، مثل نظام المالكي، بحيث أتت كل واحدة من هذه التجارب على مساحة خضراء في نفسه، وطمست لوناً من صورة الإنسان فيه). وكتب وائل عصام، في 7 يوليو/تموز الماضي، مقالاً نشره في صحيفة القدس العربي بعنوان "فصل المقال ما بين داعش والبعث من علاقة واتصال"، قال فيه في أثناء حديثه عن شخصية قيادية في تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، يُدعى أبو عمر الكردي: (يقول لي أحد مرافقي من كان يُعرف بجزار القاعدة، أبو عمر الكردي، وهو من الذين أعدمتهم الحكومة العراقية، بعد أن نفذ أكثر من مئتي عملية تفخيخ، إحداها كانت عملية اغتيال الحكيم. يقول صديقه الذي كان يرافقه إن الكردي كان يصف نفسه "بالوحش"، ويقول: "تحولت لوحش. هل تعرف كيف يُمكن أن يُصبح الإنسان بعد اعتقاله في زنزانةٍ منفردة خمس سنوات؟!"، كان الكردي معتقلاً في جهاز الأمن في النظام العراقي من عام 1991 حتى 1995 بعد عودته من أفغانستان، وكان ينظر للبعثيين على أنهم من حولوه وحشاً). والأمر نفسه ينطبق على كثيرين من المهاجرين العرب وغير العرب، ومعظمهم مطلوبون في بلدانهم، وممن تعرضوا للاعتقال والتعذيب، أو ممن ينتمون إلى أسرٍ، عانى بعض أفرادها من التضييق الأمني والاعتقال والإذلال، فلم يعد لديهم ما يخسرونه، فكانت "الهجرة إلى الشام" ملاذاً لهم من جحيم أوطانهم، وأرضاً للجهاد والاستشهاد وتحقيق حلم الدولة، وميداناً للكرامة والثأر. فالقهر يقتل الجينات الإنسانية في داخل المقهور، فتُصبح كل أفعاله، مهما توحشت، مُبررة ومشروعة و"أخلاقية"، في سبيل تحقيق الأمنيات، والثأر من الخصوم والتاريخ والمجتمع.
وبالطبع، إن تشوه فطرة الإنسان وتوحشه ليس دوماً يرتبط بظلمٍ وقهر مرّ به، بل قد يكون ذلك بسبب نزوع شخصي، واستعداد نفسي للعنف، فالناس يتفاوتون في جرأتهم وشجاعتهم واستعدادهم للمغامرة والإقدام وقابليتهم للجريمة والعنف. لذلك، نجد أن أكثر من يمارس العنف والقمع والتعذيب، بطريقة ساديّة بشعة، هم عناصر الأمن والمخابرات في المعتقلات العربية، ومعظمهم لم يمر بتجارب اضطهاد، بل كان دوماً في مقام الظالم.
6-ولكون معظم الطبقة القيادية في تنظيم الدولة الإسلامية تتكون من شخصيات عسكريةٍ، لها خبرات قتالية طويلة، وليس لها سابقة في العمل الحركي والتربوي الإسلامي، انعكس ذلك، بوضوح، على التفوق العسكري والقدرة على التخطيط والمناورة والتكتيك، وفق ما يفرضه الميدان، وتتطلبه المعركة، وبكامل التحرر من القيود الأخلاقية والشرعية. وانعكس، أيضاً، على مقدار الاحتراف في تكوين إعلام حربي، ومكنة دعائية متفوقة، وإدراك الأهمية القصوى التي تمثلها مصادر التمويل "آبار نفط، بنوك، مخازن سلاح ...إلخ"، وذلك كله تم بدرجة عالية من البراغماتية المرتبطة بـ "القدرة" لا "المشروعية". أي أننا، هنا، أمام قوة منفصلة عن القيمة، فالقوة وحدها من تصنع معاييرها الخاصة للقيم والأخلاق.
سطور أخيرة
يمكننا، اليوم، أن نعتبر أن "داعش" يعيش مرحلة "الدعوة"، بكل تطرّفها ونضاليتها وعنفوانها، لا مرحلة "الدولة" بواقعيتها وحساباتها. وكأن شريط التاريخ يستعرض أمامنا ما فعله أبو مسلم الخراساني وأبو العباس السفاح، وجحافل الرايات السود وهي ترتكب المجازر في خراسان ودمشق، لتوطيد أركان دولة بني العباس.
فالأفكار و"التصورات الشرعية" ليست هي من يقود قاطرة داعش، لكنها مجرد مظلة لتسويغ الأفعال ومنحها مشروعية. وهذا لا يتنافى مع أن دوافع غالب الشباب المنتمي لهذا التنظيم هو الإيمان والرغبة بنصرة الدين وإقامة دولة الإسلام، والاستعداد للتضحية والاستشهاد في سبيل ذلك. وقد وجدوا في تنظيم الدولة الإسلامية الجماعة الأقدر على تحقيق ذلك.
قصة "داعش" ليست مرتبطةً فقط بهويات مغلقة، ودوغما متعالية، أنتجت هذا التنظيم الذي التَهَم مساحات واسعة من دولتين عربيتين بتسارع مخيف. ولا جماعة تعيش حُلم التاريخ، فجذبت أحداث الأسنان سفهاء الأحلام. بل هي، أيضاً، نتيجة واقعٍ عربي صعب، سُدت به كل نوافذ الأمل، وقُمعت به أشواق الشعوب نحو التحرر والكرامة، وأُهينت الشريعة، باستبعادها أو استخدامها، التي يفديها كثيرٌ من الشباب المؤمن بروحه ودمه وماله، فمثلت داعش لبعضهم ثورة من أجل استعادة "دولة الإسلام" من جديد، دولة اليوتوبيا وحُلم الخلاص، لكنها ثورة استصحبت فصولاً من فقهٍ سياسيٍ، نتج في زمن الاستبداد والمُلك العضوض، تُشرَّع فيه الغاية على حساب الوسيلة، وتُرتكب فيه الموبقات، تحت لافتة "المقصد الشرعي".