سأعود من هذه الحرب

21 مايو 2015
عمل للفنان السوري تمام عزام
+ الخط -
الرصاصة التي أطلقتها كانت ذكراً ورصاصة القناص العدو كانت أنثى، في وسط المسافة التقتا وتحاضنتا، بينما بقية الرصاص كانت تزغرد في الجو احتفالاً باللقاء الباذخ قوةً، المتمرد على صفات ما يجب أن يكونه، والقادر فيما لو أردنا أن يحوّل كل مناسبة إطلاق إلى عرس كبير. وأذكر: في أعراس القرية كان الرجال يتفاخرون بالبواريد و بعدد (الشواجير) التي يفرغها كل منهم في صدر السماء حتى يكاد يقع الهواء مغشيّاً عليه من رهبة الصوت، الذي لا يخلو من زغاريد النساء. ذلك أن نشوة الرصاص العابرة بعد الرصاصة الأولى تُحيِّدُ العقل، مما يتيح لكل الحيوانات اللاحمة أن تطفو على السطح، إنها غريزة الصيد. حين كنت صغيراً كانت شجرة التوت الكبيرة في كل موسم تهديني أحد أغصانها لأصنع منه (الجطل/ النقيفة) وهي تعلم سلفاً أني سأقف تحتها مُسدِّداً تجاه عصافيرها. تلك كانت بدايات خوضي في المؤامرات؛ حيث تمنحني الشجرة سلاحاً كي أنال من المحتمين بها، هكذا نصنع حروبنا، وهكذا نعالج ما يترتب علينا وعليها من واجبات، وقتها تعلّمتُ كيف نَبْرُدُ أظافر الطفولة حتى تصير مخالبَ فاتكةً، ثم نتدرب على غرزِّها في قلب العالم الكبير. حين تدرجت في النمو مثل لبلابة تتسلق الحيطان نمتْ مخالب عيْنَيَّ إذ تمكنتُ، ومن خلال ثقبٍ تافه في باب يطلُّ على الشارع، من أن أتحسس الجارات الجميلات، وأن أنهش منهنّ ما يبرر لي سهري في تذكرهنّ. وها قد نما عودي وانبثقت الأنياب والمخالب من جسدي كما لو أنني صبارة، تعلمت حينها الصيد بالبارودة الهوائية، كانت العصافير تمنحني رباطة الجأش فأمنحها ثقباً صغيراً في الصدر يكفي لأن تسيل منه الحياة قطرة قطرة. كنت أستمتع بدوران العصفور في الهواء في رحلته الأخيرة نحو الأرض. وحين كبرت على الهواء فاجأتني الحرب، قلت أخوضها وأعود سريعاً قبل أن يبرد الشاي ولكنها صمدت. لذا كان علي أن أعود منها ولو قليلاً، وصرت أهذي: سأعود من هذه الحرب وآخذ معي ذراعاً مبتورةً لأن ساعة الحائط تحتاج رقاصاً، وربما أستخدمها لألوح للعابرين من أمام قناصتي باتجاه السماء و للعابرين من أمام قناصة العدو إلى سماء ثانية، وقد أزرعها في حديقة البيت فتنبت وردة الوداع وهي ترتدي ساعة عاطلة.


سأعود من هذه الحرب، وآخذ معي أذنا مقطوشة، سأثبتها على حائطي كي أسمع أحاديثهم الليلية، أو كي أصرخ بها كل مساء: لماذا لم تسلك الشارع الآخر حين هممتَ باجتياز حدود جيرانك الذين كانوا ينتظرون في قرارتهم أن تبدو بثياب المفترس و الطريدة.

سأعود من هذه الحرب وآخذ معي فستان طفلة رسم الثقبُ عليه وردة حمراء كبيرة، لأن دمية ابنتي كانت عاريةً. أو سأجعل منه لوحة تذكارية للرسم الحي. ولمَ لا، طالما هناك من يقدّر الفنّ ويدفع بسخاء لأكثر الفنانين عبثاً بألوان الحياة. سأعود من هذه الحرب و آخذ معي علبة عيون مفقوءةٍ، سأزين بها هذا العام شجرة الميلاد وسنحتفي بدخول الحرب عامها الجديد، ستنظر إلينا العيون، ونحن نسكر ونلهو وننثر ثيابنا ونتعرى، وقد أثبّت واحدة على الباب لتصير للباب عينين، واحدة سحرية والأخرى مفقوءة. أكاد أقرأ ما تقوله هذه العين؛ إنها تصرخ: الصيد مهنتنا، لم نكن تتاراً ولا هنوداً ولا قطبيين ولا مغولاً؛ كنا إخوةً فحسب. كان الغراب حاديَ الندم غداة كل جثة، حتى مللت وصاياه وتعاليمه فأرديته بلا معركة، وبعدها امتلأت الأرض بالجثث، وأنا أضحك بعد كل طريدة صارخاً: يا دود لك عليَّ ألّا تجوع إلى أن تأكلني، حيث لن يكون لدي فرس أذبحها لك في تلك الساعة المتأخرة من الحياة. وأنا الذي اعتقدتُ أو أقنعتُ نفسي بأنني مستمرٌّ وأزليٌّ، وكأن الموت لن يستطيع المرور بي قبل أن تعبره رصاصتي، و أدركتُ أنه طوال الوقت كان يراقبني، وبات يعرف تماماً كيف يتخطّى منظار قناصتي حين يريد. أما الآن فعلي أن أعترف بأن الذئب الذي ربيته صغيراً شبَّ، الذئب الذي كنت أدربه تغلب علي، الذئب الذي في قلبي صارت عيناي صدى عوائه المخيف.

سأعود من هذه الحرب، ولن آخذه معي لأن أولادي لا يحبون الذئاب.

(سورية)
المساهمون