زِرّ في جوف حوت

03 مايو 2016
لوحة للفنانة الأميركية كاثرين حنان ملكي (Getty)
+ الخط -
باص كبير ذو ستائر مخملية خمرية اللون بشراريب ناصلة، مقدودة من قماش رخيص، مسدلة على امتداد النوافذ. وبساط من اللون نفسه، لكنه باهت مغبرّ، ناتئ بطيّات سميكة ثقيلة على الوطء معيقة للحركة، يمتدّ في الممر الضيق من أول الباص حتى آخره. فناجين إنارة مزدوجة مثبتة في صفين طويلين في سقف الباص، بضوئها الشبحيّ الشحيح، مثل عيون حزينة، وصوت أم كلثوم ينبعث من سماعتين أمامية وخلفية:
- "تفيد بإيه يا ندم، وتعمل إيه يا فراق". صوت مُسْكر متداخل مع الموسيقى المضخّمة بالصدى.



صبية في الثامنة عشرة من عمرها ترتقي درجات الباص وتقف لحظة في واجهته الأمامية، تصطدم نظراتها بنظرات الركاب الذين سبقوها إلى المقاعد؛ نظرات فضولية لا معنى لها، تربك الصبية فتستدير لتنزل، وقبل أن تفعل تلمح إشارة من يد "كونترول" الباص الواقف في عمقه، ترشدها الإشارة إلى مقعد فارغ في وسط الباص لم تره من أول نظرة، فتمشي إليه بوجه محمرّ وعينين مسددتين كأنها تخشى عليه أن يختفي، وقبل أن تصل إليه تتعثر، فتتكئ بذراعها على مسنده العالي، وترتمي في داخله وقد انقطع زرّ جلبابها من فوق الركبتين، وسقط دفترها الكبير الذي تحمله بذراعها الأخرى.

تنحني الطالبة المستجدة لترفع دفترها عن أرضية الباص، وتبحث بعينيها عن الزر الكبير فتراه بين قدمي الشاب الجالس في المقعد المقابل، تغض النظر عنه وتعدل جلستها في المقعد الداخلي إلى جوار النافذة، وتجمع طرفي جلبابها، وتغطي بالدفتر الفتحة الواسعة فوق فخذيها، وفوق الدفتر تضع حقيبتها. تزيح الستارة وتفرّ بنظراتها إلى الشارع.

الطالبة تراقب الطلاب الواقفين في المحطة والماشين على مهل، يلفت نظرها شاب وشابة يجلسان على الرصيف المقابل يتناولان الطعام؛ الشاب يجلس منفرج الساقين وبيده ساندويتشة كبيرة دائرية الشكل، يحني رأسه بين ساقيه مع كل قضمة كبيرة يأخذها، والشابة تجلس باعتدال وركبتاها متلاصقتان، بيدها علبة بطاطا مقلية تمدها للشاب فيتناول منها قطعتين أو ثلاث بعد كل قضمة من الساندويتشة، ويدها الأخرى تتحرك في الهواء وهي تتكلم وتبتسم. الشاب ينتهي من طعامه ويلقي ورقة الألمنيوم في كيس بلاستيكي بين قدميه، ويخرج منه علبة كولا ويفتحها ويضعها على فمه، ثم يشعل سيجارة من علبة في جيب قميصه وينفث دخانها نحو السماء.


تسمع الطالبة هدير محرك الباص، وصوت الباب الكهربائي يغلق، تلتفت فترى شاباً يمشي نحوها وشعر رأسه الكث يلامس سقف الباص و"الأضوية" الشبحية تتراقص على صفحة وجهه، يحاذي جسده جسد الكونترول في منتصف الممر، فيمارسان رقصة الفالس، ويبدو الكونترول شريكاً قبيحاً مقارنة بقامته المديدة وجسده الرشيق. يهتز مقعدها هزة خفيفة لجلوسه إلى جوارها، ويمسي الشاب الوسيم شريكها في المقعد. يرفع الكونترول صوته مخاطباً السائق:
- أُقْصُد.

يغادر الباص محطته ثقيلاً وئيد الحركة، يفسح له الطلبة المشاة الشارعَ الضيق، وتنهض الشابة الجالسة على الرصيف وفي يدها علبة فارغة، وترفع الكيس المملوء بالمخلفات وتعلق حقيبتها على كتفها، وتشيّع بأسى الباص المغادر، وتستسلم، بنظرة حائرة، لسحابة الدخان السوداء التي نفثها نحوها. تراقب الطالبة المستجدة وجه الشابة الوحيدة حتى يغيب، وتنتبه لكنترول الباص الذي بدأ يجمع الأجرة من الركاب وهو يسند ظهره إلى المساند. تفتح حقيبتها وتخرج منها جزداناً، ومنه تخرج ورقة نقدية وتعيده داخل الحقيبة، وتراقب الكونترول وهو ينتقل من مقعد إلى آخر، وتسمعه يردد عند كل مقعد:
- فكّة، أعطوني فكّة.

تعيد الطالبة المستجدة فتح جزدانها، وتعيث بإصبعيها فيه، وتجمع في يدها عدداً من القطع النقدية، وتسمح لها زاوية النظر أن تلمح الساقين الطويلتين النحيلتين لشريكها في المقعد تلامسان ظهر المقعد الأمامي، وترى كفيه تمسكان كتاباً مفتوحاً. يقف الكونترول بمحاذاتهما فتمدّ يدها إليه بالأجرة من فوق الشاب الذي يطوي كتابه بهدوء ويدس يده في جيبه ليخرج ورقة نقدية كبيرة. تلاحظ أن الكونترول يحوي في يده عدداً كبيراً من القطع النقدية، تصطفّ في كفه مرتبة كأنها في صندوق الكاشير، وبين أصابع يده الأخرى يطوي الأوراق النقدية بحيث تبرز أطرافها كأنها في آلة لعد النقود. وقبل أن يغادر، ومن دون أن يستأذن، يمدّ يده ليغلق الستارة المفتوحة.

يتأرجح الباص ويتمايل مع إسفلت الطريق الطويلة المتعرجة بين عمّان والزرقاء، مثل حوت يسبح في مياه عميقة، هادئاً واثقاً من نفسه، ويسود الهدوء جوفه المعزول عن العالم الخارجي. تختفي آلة عد النقود من الممر ويرتفع صوت أم كلثوم:
- "وكفاية بقى تعذيب وشقا".

الطالب الوسيم يسترخي في جلسته، ويرفع ساقيه ويسندهما إلى ظهر المقعد الأمامي ويدلّي حذاءه الرياضي في الفراغ، ويفتح الكتاب بين ساقيه، لكنه لا يقلب الصفحة رغم مرور الوقت، بل تسقط يده الممسكة بالكتاب إلى جانبه ويعلو صوت تنفسه. تفتح الطالبة شقاً رفيعاً في الستارة وتنظر منه إلى الخارج، ترى بقايا البيوت التي غطاها غبش الغروب، وترى وجهها منعكساً في زجاج النافذة، وتستطيع أن ترى الحيّ الذي يقع فيه بيتها في أعلى التلة المقابلة، وتعرف أن الباص يقترب من محطة نزولها، وفجأة يخطر لها الزر الذي سقط من جلبابها، وتدرك أنه ثمين وأنها يجب أن تسترجعه فتغلق الستارة وتجلس ساكنة في جوف الحوت، وتلغي إحساسها بالعالم الخارجي، وتنتظر وصول الحوت إلى محطته الأخيرة في موقف الباصات، وتظل ساكنة حتى يستيقظ النائم ويغادر الركاب مقاعدهم وتنتهي الأغنية الطويلة، فتغادر مقعدها وتلتقط الزر فتجده قد انشطر في يدها إلى نصفين.
دلالات
المساهمون