ولعل هذا ما يفسر عدد صفحات مجموعتها القليل، 66 صفحة، الذي يعكس عملاً دؤوباً في تكثيف النص ومحو ما لا يُعوّل عليه في الشعر، كالشرح والشكوى والخاص. وهو عمل تفتقده عادةً المجموعات الشعرية الأولى التي يكون الشاعر فيها منساقاً بإفراط نحو عاطفته وقلبه، وليس نحو الإبداع الصرف.
شعر عازار منزلي، إذا جاز التعبير. شعر تتم تربيته مثلما نطعم قطة صغيرة، قطة ترافق وحدتنا داخل الزمن السائل؛ حيث الحياة التي تجري في الخارج تتقلّص على الدوام و"ببطء تجعلك تضيق في اتساع بلا جدوى"؛ حيث "الخريف يتسلّل في الممشى بين القفص والسماء"؛ وحيث الحياة ثقيلة على خفّة وهشاشة الكائن الذي كتب عليه عيشها: "تفتحُ بابك على أرض ثقيلة (...) وتترك كل شيء".
هناك خواء كامل في الخارج، تتحدّث عنه عازار بلغة تسعى إلى تحريك الزمن المتوقّف في الخارج بملعقة الأنفاس القصيرة: "أنظرُ إلى الخارج، شمس عادية، سماء خالية/ لا تنبئ بشيء/ لا شيء، مثل طعم الفطر". ونعثر على مثل هذا الشعر مراراً في الكتاب، كقولها: "هو ليس موتاً كلّ ما يتحرّك في هذا القعر ولا ينتهي/ حياة بالكاد". إنّها حياة يتم التفرّج عليها من شقوق كثيرة، وعيشها بالحرمان منها: "لم أعد أتمنى سوى التوقف برهة/ في هذا الظل الذي يتفتت (...) أمسحُ آلاماً لم أشفَ منها".
تكتب عازار عن ذلك الصفاء الكبير حولها، ما يجعلها أقرب للموت في صفائها. هي تريد أن تكتب خلاف تلك الحياة المتوقفة في زمن ما، وفي أماكن لم تزرها، مع أحباب لم تلتق بهم. تريد إضافة شيء للسماء مثلاً، كي تشعر بحياتها، وبارتباط تلك السماء بسيرتها الضعيفة. لذلك تكتب دفعة واحدة: "أحتاج غيمة للتوازن". بهذه الرؤية، تملك صفاء مراقبة الأشياء، وصفاء تغيير صفائها، ولو بغيمة لا تضيف شيئاً إلى ذلك الاتساع الهائل من الخواء: "في هذه اللحظة لا تعرف أين أنت/ تجري الأمور كأنّك تفهم/ أنت لا تفهم شيئاً/ سوى أنّك تسمع طرقاً في مكان ما/ حيث الحياة هشّة/ وأنت لا تجرؤ على الالتفات".
تتداخل أوصاف المرأة والرجل في قصائد عازار لدرجة اختلاط الأمور علينا. هناك لعب على الضمائر بخفّة، كما لو أن شيئاً لا يتغيّر، مهما تغيّر الأشخاص، أو مهما تبدّلت المصائر والأماكن.
لا توجد عناوين للنصوص المنشورة في المجموعة، بل أرقام تصل إلى 53. لا داعي للعناوين، مادام النص نفسه، تتم كتابته عشرات المرات، لكن في كلّ مرة بشكل مختلف. ويذكّرنا هذا بتجربة الشاعر اللبناني الراحل بسام حجّار. "اليد التي تعود دائماً فارغة". إنها يد مشابهة لتلك التي تكتب هذه النصوص المرقّمة فحسب. نصوص يأتي جميعها تحت عنوان واحد، هو حاجتها: غيمة للتّوازن؛ طالما أنّها "تتحسّس سماء عديمة المعنى".
ويظهر ذلك الخواء، وعدم الرغبة في العيش، في قول عازار الآتي: "النافذة بجانبي ترى وتسمع عنّي". وربّما من يكتب هذه النصوص هو مزاج تلك النافذة التي تطلّ على الحياة ولا تحياها، وربّما "يكون مقعدٌ وحيد/ وأخير/ بين الأمكنة العديدة/ المقعد الوحيد الذي يصلح ليكون مكاناً". أما الشاعرة، فهي هناك "لأنّ على أحدهم أن يكون/ ببساطة، عابراً في تلك الأمكنة".