تنبعث رائحة زيت الزيتون وجفته في المكان. تعمل آلات حديثة في قسم من المعصرة الفلسطينية العتيقة، ويأبى أصحابها إلا الحفاظ على الطريقة التقليدية بسبب الإقبال على الزيت الناتج عنها من الزبائن.
حجارة كبيرة تدور لتسحق حبات الزيتون، ليتلقفها عُمال يهتمون بنقلها إلى قفف (جمع قفة) دائرية بعد أن تغدو كالعجين، ثم يضعونها فوق بعضها البعض، يتوسطها لولب حديدي، فتبدأ قطرات الزيت تسيل. قبل أن تنتقل إلى مراحل أخرى يتم فيها فصل الزيت عن الماء، ليخرج في نهاية عملية التقطير زيت أخضر غامق اللون يسرّ الناظرين ويثير شهية الحاضرين.
ورغم انتشار المعاصر الحديثة في مدن وقرى الداخل الفلسطيني، إلا أن قرية "يركا" في الجليل، تحافظ على 4 معاصر تعمل بالطريقة القديمة. في نفس تلك المعاصر تظهر آثار الحداثة، لكن أصحابها يرفضون التنازل عن زيت الزيتون المستخرج من تحت الحجارة، بخلاف ذلك الناتج عن استخدام "الجاروشة" أو "المفرمة".
المعاصر الحجرية الأربع تقع في قرية لا يتجاوز تعداد سكانها بضعة آلاف، ما يجعلها أمرا نادرا في الداخل الفلسطيني، وبحسب أصحاب المعاصر، فإنها لازالت تستقطب كثيرين من القرى والمدن المجاورة ممن يتمسكون بالتراث والتقاليد.
يقول شئيم رمال، وهو صاحب معصرة في يركا، إن "لدينا معصرة تتيح اللجوء إلى الطريقة الحديثة لطحن الزيتون بالمفرمة (الجاروشة)، كما تتيح إمكانية الاستعانة بالطريقة التقليدية القديمة في استخراج زيت الزيتون اعتمادا على الحجارة والقفف والكبس وضغط الماء وأمور أخرى".
ويشرح رمال سبب وجود المعاصر القديمة في القرية الصغيرة، مؤكدا أن "أهل يركا ما زالوا متمسكين بالتراث والأمور التقليدية، ويريدون أن يبقى الزيت على طبيعته، أو هكذا يظنون، حتى أن منهم من جرب آلة الفرم، لكنه قرر العودة إلى الحجارة".
ويضيف "رغم وجود آلات حديثة لدينا، إلا أن معظم الزبائن الذين يأتون إلينا يفعلون ذلك بسبب وجود المعصرة القديمة. يريدون زيت الزيتون المطحون بالحجارة. لا أتحدث عن أهالي قرية يركا فقط، ولكن الناس يأتون إلينا من كل مكان".
وأوضح أنه شخصيا يفضّل الزيت المستخرج بالطريقة الحديثة شريطة أن تعمل المفرمة بالماء البارد، "هنالك مفارم تعمل باستخدام الماء الساخن، ولكن التي تعمل بالبارد أفضل للزيت".
أكثر من يتمسكون بالطريقة التقليدية هم كبار السن الذين ترعرعوا عليها، والفارق الوحيد بين حجارة الأمس وحجارة اليوم، أن الأولى كانت تدور بواسطة الحمير أو الماشية، فيما تدور حجارة اليوم بالكهرباء، لكن النتيجة في المحصلة واحدة.
ويقول شعلان أبو ريش، وهو أحد ملاك أقدم معصرة في يركا، "عمر المعصرة أكثر من 70 سنة، ورثناها أبا عن جد، وجميع محتوياتها تقليدية، كلها حجارة ومكابس تعمل بالماء. كل شيء على الطراز القديم. لا توجد لدينا ذراية (اسم دارج لآلة تفصل أوراق الزيتون عن ثمره قبل عصره)، يأتي الفلاحون إلينا بحبات الزيتون خالية من الأوراق".
ويرى أبو ريش، أن "كبار السن يؤمنون أن الحجر أفضل من المفارم الحديثة. أما جيل اليوم فأقل اهتماما بالحجر لأنه يفضّل عدم الانتظار، وبالتالي يلجأ أصحاب المعاصر الجديدة إلى الطريقة الحديثة. على المستوى الشخصي أنا معتاد على زيت الحجر كما توارثناه في العائلة، لكن عملياً لا يوجد فرق بين زيت المعاصر الحديثة والتقليدية".
ويشير أبو ريش لـ"العربي الجديد"، إلى أنه "عندما نرى طريقة استخراج زيت الزيتون بالطريقة القديمة، فكأننا نرى آباءنا وأجدادنا يعملون أمامنا. هي صورة من ماضينا، ومن تراثنا وعاداتنا وتقاليدنا. ما يميّز قرية يركا، أنها تحافظ على هذا التراث وعلى رائحة الماضي رغم وجود المعاصر الحديثة. أنا لا أجرؤ على التنازل عن هذا الإرث العظيم، وأربي أولادي على التراث. المعاصر القديمة أيضا فرصة لإطلاع الأجيال الصغيرة على ماضينا، من خلال جولات تعليمية، وبعض المدارس تنظم فعلاً زيارات من هذا النوع".
ومن العادات الدارجة أن يحصل أصحاب معاصر الزيتون على نسبة من الزيت المستخرج من زيتون الفلاحين وفقا للكمية.
ويتفق شعلان أبو ريش وشئيم رمال، على أن المعاصر القديمة تحتاج إلى عمال أكثر وإلى جهد جسماني أكبر، وبالتالي فإن تكلفة استخراج الزيت منها أعلى من المعاصر الحديثة، ومع هذا لا يستطيع أحد من أصحاب المعاصر في القرية، أن يغلق الباب بوجه المعاصر التقليدية.
ويلخص رمال الأمر بقوله: "لو نظرنا إلى الأمور من منظور اقتصادي بحت، لما حافظنا على المعاصر التقليدية، لأنها مكلفة بالنسبة لنا بسبب الاعتماد على عدد من العمال، فيما المعاصر الحديثة قد يشغّلها شخص واحد فقط، إذ تقوم بكل شيء بشكل آلي. المنطق يقول إن ثمن الزيت المستخرج بالحجر يجب أن يكون أغلى بضعفين على الأقل بسبب أجرة العمال والجهد، ولكن هذا لا يحدث في الواقع، ففي نهاية الأمر الجدوى الاقتصادية تكمن في الآلات الحديثة، ولكن التراث لا يزال يفرض نفسه".