زيت على قماش

10 نوفمبر 2018
المعذرة لأي لوحة زيت على قماش (Getty)
+ الخط -

ترتبط الموادّ الزيتية عندي تاريخياً بالبنطلون والقميص. هناك نقطة زيت ظلت تسقط من فمي طوال الوقت إلى الأسفل، إما على القميص وإما البنطلون، تحديداً الزيت بالزعتر.

ومنذ صغري وأنا أتكلم بلغة عربية فصحى جيدة. لكنْ جميع المقربين الأوغاد بالغريزة يثمّنون ذلك، ثم يتركون كل شيء وينتبهون إلى نقطة الزيت على البيجاما. أن تكون حافظاً لقصيدة "أحمد الزعتر" أمر جيد، لكن لماذا على بنطلونك بقعة زيت وزعتر؟ يتساءل الأوغاد.

الآن، نادراً ما تسقط من فمي زيوت، خصوصاً بعد انضمام الفوطة إلى قائمة السفرة. مع هذا يظلُ وسواس بقعة الزيت ملازماً لي.

يخطر في بالي: كيف يمكن لشخص بهذه المواصفات أن يدلي بدلوه في قضايا وطنية كبرى؟

أبعد الصور أثراً، تلك التي نقّط فيها زيت الزيتون مع الزعتر على قميصي الأخضر الفستقي والبنطلون البنفسجي، وقد اشتراهما لي شقيقي الأكبر من محل "أبو لبن" في عمّان البلد أواخر السبعينيات، وحضرت معه فيلم "الرسالة" في سينما زهران.

يومها، استبيحت شخصيتي وتعرضت لحفلة إهانات باللهجة الدارجة. وكانت النقطتان على القميص والبنطلون مشعشعتين مع موسيقى تصويرية قبيحة، وأصوات كومبارس "حمار.. أعمى.. الحق مش عليك".

ليسامحني أي رسام يرسم لوحة "زيت على قماش". هذا ما يحدث معي للأسف.

إبداع وبدعة

اعلم عزيزي القارئ أنك حين تكون مبدعاً، فقد يكرمونك بدجاجة محشوّة بالأرزّ والمكسّرات، أو قد يحشونك بدجاجة حية.

وبدع وابتدع إبداعاً، أي عمل عملاً فذاً، أو بدع وابتدع بدعةً أي اقترف ضلالة، وكل ضلالة في النار.

المبدع والمبتدع كلاهما بمعنىً واحد وبمصيرين.

خذ عندك السيد الوالد رحمه الله، حين يقول لي "بدّعت يابا" أكون في ذلك اليوم أخذت منه عشرة دنانير، لأشتري كل كسوة العيد فوقاني تحتاني، لكنني اشتريت من شارع السعادة بنطلوناً خطف قلبي بتسعة دنانير، وعدت مزهواً مثل طاووس، ثم تجمّد الزهو فوراً بعد كلمة "بدّعت".

ومن مساوئ الصُدف أن الإبداع والبدعة يحتاجان إلى معنى ثالث، وهو أن يبدّع بك. والإبداع هنا لا يعني أن يضربوك، بل أن ينكلوا بك.

إذا تلقيت صفعة على خد واحد، فهذا يعني أنك مضروب، لكنْ صفعة، ودوس في البطن، وعض وقرص وبصاق، هذا يعني أنهم أبدعوا فيك أو بدّعوا.

يورد أحد الكتب القديمة "وبدّعوا بأذربيجان، وقتلوا وسبوا نحو مئة ألف".

في ذلك العيد، دبّرتُ نفسي بقميص وحذاء مستعملين مع البنطلون الجديد، ولكن المخيّط سرجُه بإبرة الأم، لأن أبي مزقه في فورة الغضب.

أحبُ أن "أبدع" على الهامش رسالة لأبي:

لم أتغير يا أبي. أعلم أن العشرة دنانير مبلغ ضخم لعامل كسّارة في بداية الثمانينيات، وأنك محق في غضبك على ولد سيئ التدبير. بيد أنني لم أسامح شقيقتي التي عنّ لها تنظيف الحوش عند اندلاع غضبك، مع أن فلكلور العائلة يقضي بأن نخبئ كل الأدوات المنزلية مع بوادر انفجارك. غير أن شقيقتي هي التي اختبأت، وتركت لك المسّاحة ذات العصا.

ولم أتغير كثيراً يا أبي. ما زلت - بحسب وصفة سارتر - أحب في النقود صفة التلاشي. لا أحب، مثلك، الحرص على المال، ولكني مثلك أيضاً أحضّ أولادي عليه كل يوم، حتى كادوا يكفرون.

والسلام ختام
الفلكلور - يا أبي - يعني: الموروث الشعبي.

سارتر: أجنبي ملحد كان يعد عشر نساء بالزواج.

دلالات
المساهمون