اعتبرت الكثير من التحليلات السياسية، أنّ الزيارة الأخيرة لوزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف، ونائب رئيس الوزراء ومسؤول الملف الاقتصادي في الحكومة الروسية يوري بوريسوف إلى دمشق، محطة مفصلية في العلاقات بين الجانبين، وخصوصاً لجهة تحديد ملامح المرحلة المقبلة في سورية، والتي سيكون لروسيا دور أساسي فيها، كما كان لها الدور الحاسم خلال السنوات الماضية.
وإذا كانت الجوانب الاقتصادية، وما ذكر في وسائل إعلام النظام وروسيا، عن إعادة الإعمار، تصدّرت عناوين الزيارة، فإنّ القضايا السياسية "الحساسة" كانت في صلبها أيضاً، فضلاً عن ضغط الروس لربط التقدّم في المشاريع الاقتصادية، بإجراء "إصلاحات" سياسية ذات مغزى من جانب النظام.
في حال لم يتجه نظام الأسد نحو الإصلاحات، فإنه سيبقى من دون أموال
ونقلت مراسلة صحيفة "كوميرسانت" الروسية في دمشق، ماريانا بيلينكا، عما وصفته بـ"مصدر روسي متابع لعملية التسوية السورية" قوله إنه "في حال لم يتجه نظام الأسد نحو الإصلاحات، فإنه سيبقى من دون أموال ومن دون جزء من سورية، وهذا سيكون قراره". وأضافت المراسلة أنّ "الكثير مما سيحدث في سورية سيكون معتمداً في الوقت نفسه على سياسة أميركا المستقبلية، وماذا سيحدث بعد الانتخابات الرئاسية هناك"، مشيرةً إلى أنه "حان الوقت بالنسبة لموسكو لتحديد الخيارات بما يتعلق باستراتيجية وجودها في سورية، أو بالأحرى وفق أي شروط ستبقى". وقالت إنّ روسيا "حددت بالفعل خياراتها".
ووفق التصريحات المعلنة في دمشق، فإنّ الزيارة ركزت على آليات إعادة تأهيل الاقتصاد السوري ومواجهة الضغوط المتزايدة عليه من خلال العقوبات الغربية، بالتوازي مع مناقشة سبل دفع العملية السياسية مع التركيز على ضرورة منح اللجنة الدستورية الوقت الكافي لإتمام عملها.
واعتبر رئيس النظام السوري، بشار الأسد، خلال استقباله الوفد الروسي، أنّ سورية وروسيا "نجحتا بإحراز تقدّم في تحقيق حلّ مقبول للطرفين في العديد من القضايا"، مشدداً على "الأهمية الكبيرة لنجاح الاستثمارات الروسية في سورية".
وخلال مؤتمر صحافي مشترك، حضره بوريسوف ولافروف مع وزير خارجية النظام وليد المعلم، قال بوريسوف إنّ الطرفين "توصّلا إلى اتفاقات للتعاون في إعادة تأهيل نحو أربعين منشأة سورية مهمة، خصوصاً ما يتعلق بالبنى التحتية لقطاع الطاقة واستخراج النفط والغاز، وكذلك إعادة إعمار عدد من محطات الطاقة الكهربائية". كما أشار إلى إبرام اتفاق حول استخراج النفط من البحر على السواحل السورية.
في الشقّ السياسي، وربما هو الأهم، لأنّ أي مشاريع اقتصادية ستظلّ رهينة حصول تغيير سياسي، شدّد لافروف على أهمية استكمال عمل اللجنة الدستورية، ودفع تطبيق القرار الأممي 2254 المتعلق بمحادثات السلام، فيما برز تباين في موقفي الطرفين بشأن كيفية التعامل مع الأكراد في سورية. وحين سئل المعلم عن موقفه من اتفاق الإدارة الذاتية الكردية مع "منصة موسكو" بقيادة قدري جميل، قال إنّ "أي اتفاق يتعارض مع الدستور السوري لا ندعمه"، فيما دافع لافروف عن الاتفاق، لكنه اعتبر أنّ "روسيا ليست طرفاً فيه، وإن جرى توقيعه في موسكو".
وفي السياق، ذكر مصدر مطلع على أجواء الزيارة، لـ"العربي الجديد"، أنّ موسكو تعمل على حلّ بعض القضايا المتعلقة بالأكراد في سورية لتحقيق هدفين؛ الأول إبعادهم عن الأميركيين، والثاني الانفتاح الاقتصادي على مناطق سيطرة قوات سورية الديمقراطية (قسد) بهدف التخفيف من عواقب قانون "قيصر" الأميركي.
وحسب مصدر كردي تحدث لـ"العربي الجديد"، فإنّ العلاقة مع الأكراد لم تحتلّ حيزاً كبيراً من مباحثات الوفد الروسي في دمشق، مشيراً إلى أنّ الروس غير متحمسين لوضع خاص ودور جديد للأكراد في سورية، بالنظر إلى معارضة النظام، والاعتراضات الإقليمية، خصوصاً من جانب تركيا، على ذلك. ورأى المصدر أنّ أقصى ما يمكن أن تدعمه موسكو بالنسبة لقضية الأكراد هو "رفع نسبة مشاركتهم السياسية، وإدارة بعض شؤونهم المحلية، لكن من دون تشكيل أي كيان مستقل".
إلى ذلك، حرص لافروف والمعلم خلال المؤتمر الصحافي، على نفي وجود ترابط بين الملفين الاقتصادي والسياسي. وقال المعلم إنّ موسكو لم تضع سقفاً زمنياً لعمل اللجنة الدستورية، مقابل تقديمها مساعدات اقتصادية، وهو أمر أكده لافروف الذي أشار إلى أنّ "اللجنة الدستورية ليست مرتبطة بسقف زمني، ويجب منحها الفرصة كاملة لإنجاز عملها من دون تدخل خارجي". كما قال المعلم إنّ أي نتائج تتوصّل إليها اللجنة ستعرض على استفتاء شعبي، مستبعداً احتمال تأجيل موعد الانتخابات الرئاسية العام المقبل في حال لم تنه اللجنة عملها في جنيف. كما دعم لافروف هذه النقطة بقوله إنه "طالما لم يتم وضع دستور جديد، فإنّ البلاد تسير وفقاً للدستور القائم".
موسكو نصحت نظام الأسد بمساعدة روسيا على ضخّ الأوكسجين في الاقتصاد السوري من خلال القيام بإصلاحات سياسية ملموسة
غير أنّ المصدر السوري المطلع على أجواء الزيارة، ذكر أنّ موسكو "نصحت نظام الأسد بمساعدة روسيا على ضخّ الأوكسجين في الاقتصاد السوري من خلال القيام بإصلاحات سياسية ملموسة وإجراء إصلاح دستوري وفق القرار 2254، إضافة إلى ضبط العلاقة مع إيران، والابتعاد عنها تدريجياً، كونها باتت في مرمى النيران الإقليمية والدولية، وكذلك إبعادها عن جنوب سورية، وذلك تمهيداً لإعادة دول عربية العلاقات مع النظام والمساهمة في إعمار سورية".
وحول الخلاف حول الدور الإيراني في سورية، قال لافروف في المؤتمر الصحافي مع المعلم إنّ "الوجود الإيراني في سورية أمر لا يخص روسيا، بل هو قرار سيادي للنظام السوري"، في إشارة إلى أنه يلقي بالكرة في ملعب النظام ليتصدّر مسألة تحجيم إيران في سورية.
وفي سياق متصل، يفهم من حديث لافروف وجود خلافات بين أطراف مسار أستانة (روسيا، تركيا وإيران)، إذ قال إنه "لا يمكن إيجاد تطابق كامل في المواقف بين أي أطراف"، مشدداً على أنّ "المهم أنّ موسكو وأنقرة وطهران جمعتهم الرغبة في منع انزلاق سورية نحو السيناريو العراقي أو الليبي". وأشاد لافروف بالاتفاقات الروسية - التركية في إدلب، وقال إنها "تسير نحو التطبيق، على الرغم من أنّ ذلك يجري ببطء"، متجاهلاً الخروقات اليومية من جانب قوات النظام لتلك الاتفاقيات، والمعطيات الكثيرة حول تحضيرات يجريها لاستئناف العمليات العسكرية هناك على نطاق واسع.
والخلاصة، أنّ روسيا تضغط على النظام من أجل استثمار إنجازاتها العسكرية لأقصى درجة ممكنة عبر السياسة والاقتصاد وصفقات يبدو أنّ الأميركيين ليسوا في واردها حالياً، بسبب انشغالهم في الانتخابات الرئاسية، وذلك وفق رؤية حدّها الأقصى حلّ سياسي مع تحسين الاقتصاد، والأدنى مواصلة الدعم الروسي المحدود للنظام لمنعه من السقوط، مع التأكيد على حصة روسيا في جميع قطاعات الاقتصاد. والرسالة الروسية في الحالتين هي الكرة في ملعب نظام الأسد، ونحن بحاجة إلى ضمانات ألا يضيع "حقنا" أياً كان قراركم.
ويعلم الروس أنّ النظام في موقف حرج عموماً، وليس عنده ترف رفض مقترحات موسكو. وحسب المصدر المطلع الذي تحدث لـ"العربي الجديد"، فإن النظام "سيمنح روسيا ما تريده اقتصادياً، لأنها أمله الأخير للمحافظة على الحكم أطول فترة ممكنة، وسيسعى للعمل معها حتى يجد فرصة للانفتاح على الغرب من بوابات مختلفة. والروس يدركون أنّ النظام يحسن اللعب على الحبال، وربما سيعملون مع الأوروبيين والأميركيين لمنع إمكانية قيامه بانقلابات كبيرة".