بالفعل، أصحبت هافانا في غضون سنتين قِبلة لكلّ من سعى يفتّش عن وجهةٍ اشتراكية جديدة، عن ثورةٍ يساريّة فتيّة. يصف الكاتب الإسباني مانويل باثكِث مونتالبان في كتابه "ودخل الربّ إلى هافانا"، 1998، الذي يُقدّم مراجعة تحليلية للثورة، تلك السنوات بـ "زمن البراءة"، ويقول "إن الثورة كانت مدلّلة من قِبل اليسار المثقّف في العالم، وهافانا صارت موسكو 1920". يذكر أيضاً زيارة سارتر وسيمون دو بوفوار اللذين وصفا كاسترو بـ "الصديق"، قبل أن يَخلُص الأخير إلى وصفهما، فيما بعد، رِفقة آخرين ممن انتقدوا حكومته، بـ"عملاء الإمبريالية".
لم تنقضِ أشهرُ على انتصار الثورة حتى تأسّس "بيت أميركا" على يد المناضلة والسياسية هايديه سانتاماريّا، وسرعان ما تحوّل البيت إلى ملتقى لكتّاب ومثقّفي أميركا اللاتينية اليساريين. لعبت هذه المؤسسة المستقلّة دوراً محورياً في نشر الأعمال الأدبية والمؤلّفات الفكرية والفنية لكتّاب وفناني القارّة، وساهم نشاطها الثقافي البارز في الانفجار الذي أشعل الأدب اللاتيني كظاهرة غير عادية في الستينيات.
لم يدم الحال طويلاً، فالقيادة الكوبية التي اعتبرت نفسها -والثورة- مهدّدة من عدّة جهات، اتّخذت قرارات أحادية، تعسفيّة، مسّت الحياة الثقافية بصورة مباشرة، فحاصرت المثقّفين مُسوّغة ذلك بخوفها من تفرّدهم في تشكيل الوعي الثقافي للشعب. بدأت بوصفهم بالبرجوازيين، وانتهت تدريجياً بإبعادهم عن الواجهة، وسجنت بعضهم. خلال وقت قصير صارت الأمور واضحة، وكاسترو نفسه قال: "[...] يجب أن يكون الفنّ أيضاً سلاحاً يدافع عن الثورة. [...] داخل الثورة، كل شيء. ضدّ الثورة، لا شيء".
كتابٌ كثيرون صمتوا إذاً، وآخرون اختاروا المنفى مثل غييرمو كابريرا إنفانتِه، وبعده، ريينالدو أريناس، وخوسيه مانويل برييتو، ونوربيرتو فوينتِس. هناك من رضخ واعتاد الإملاءات، في حين أن قلّة ممن بقوا ظلّوا يرفضونها، كما يذكر الكاتب المسرحي أنطون أرّوفات، أحد المتّهمين بالعمل ضدّ الثورة إلى جانب إيبيرتو بادييّا. كان باديّيا، الشاعرُ والمثقّف الكوبي الذي أُودع السجن عام 1971 إثر إلقائه قصائد غير منشورة من مجموعة "استفزازات" في أمسية شعرية، من الذين وقفوا إلى جانب الثورة حتى بدايات حكم كاسترو، لكن القيادة السياسية لم تحتمل انتقاداته فعاقبته ومنعت تداول كتبه المنشورة، مثل "خارج اللعبة"، 1968. رسمت حادثة بادييّا ملامح أزمةٍ ستستمرّ عقوداً فيما بعد، ولم تعلن فحسب بدايةَ تراجع تعاطف المثقّفين مع الثورة، بل حفرت هوّة فصلت بين موقفين متضادّين: من استمرّ في دعمه لكوبا مُعتبراً ما حصل مع بادييّا ورفاقه ردّة فعل دفعت إليها الضرورة، ومن اعتبر أن الثورة خانت، بنفسها، فكرها المثالي.
من الجدير بالذكر أن كورتاثر وماركيز وبينيديتّي من بين آخرين وقفوا في صفّ الجماعة الأولى، في حين ضمّت الثانية أسماء مثل بارغاس يوسا، وخورخي إدواردس، وأوكتابيو باث، وكابريرا إنفانتِه. لاحقاً، وبمبادرة من يوسا وقّع مجموعة من الكتّاب رسالة احتجاجية بعثوها إلى كاسترو، كان من بينهم إيتالو كالفينو، والأخوين غويتيسولو، وسوزان سونتاغ.
هكذا توالت المواقف بين مؤيّدة ومعارضة، وطالما اُستعيد الجدل إثر وقائع جديدة تنفض بعضاً من الغبار الذي يتراكم، مثلما حصل في عام 2003 عقب حادثة إعدام الحكومة لثلاثة كوبيين اختطفوا زورقاً محاولين الوصول به إلى شواطئ ميامي في الولايات المتحدة، وسجنها لـ 75 من المعارضين، بينهم الشاعر والصحافي راوول ريبيرو. في تصريح لـ ساراماغو، في هذا الشأن، قال إن طريقه ابتعد كثيراً عن كوبا كاسترو: "لقد فقدتُ ثقتي بكوبا، لقد خيّبت آمالي. إلى هنا وصلتُ". وكتب غاليانو آنذاك نصّاً بعنوان "تؤلمنا كوبا" يقول فيه: "في كوبا، أضحت مرئيةً علاماتُ الاهتراء في نموذج حكمٍ مركزيّ يُحوّل الإنصياع للأوامر التي تنزل من القمّة إلى إنجازٍ ثوريّ". لكن رغم كل شيء، وإن ترك كلاهما موقفه واضحاً، لم يعلن أيّ منهما القطيعة مع كوبا كما فعل يوسا مثلاً، كانا يريان أن الكوبيين هم من عليهم تقرير مستقبلهم.
هذه الأحداث والتطوّرات أشعلت من جديد المواجهة الديالكتيكية بين يوسا وماركيز فيما يتعلّق بكوبا، فالبيروفي كان يعدّ نظيره الكولومبي من "حاشية" كاسترو، بينما لم يكن يخفى على ماركيز، ما لا يخفى على أحد، قُرب يوسا من السلطة وتقلّبات مواقفه السياسية، ليس آخرها تعاطفه المبطّن مع اليمين الإسباني الحاكم، في العاصمة مدريد حيث يُقيم منذ سنوات.
اختلفت علاقة المثقّفين المتعاطفين عموماً مع الثورة أو علاقة أولئك خصوصاً مع كاسترو، واتّخذت أشكالاً غير واضحة أو مفهومة في بعض الأحيان، لكن، على أيّة حال، لا يمكن على الأقلّ إغفال الإطار الزمني الذي نشأت فيه، والعبء الكبير لما كان يعنيه أن تعيش ثورة تحت الحصار والجوع، ولكلّ ما يُولد من تناقضات. مع ذلك، يرى مونتالبان أن الدروب عند كوبا تشتّتت مبكّراً، ويصف الحال في ذلك الوقت أنّ "ليس للثورة من يُكاتبها"، كما عنون أحد فصول كتابه في تلميحٍ، ليس في محلّه بالتأكيد، إلى أحد أصدقاء الكومانداته، غارثّيا ماركيز.
طوال زمن إذن، طفت على السطح حالة معقّدة لم يستطع فيها كثيرٌ من الكتّاب المنتقدين أو المُعتَبرين كتّاباً ضد الثورة أن ينشروا أعمالهم؛ أضحوا مهمّشين، واضطرّوا إلى امتهان أشغال لا شأن لها بالثقافة. صحيحٌ أن كوبا قطعت خطوات هائلة في حقل التعليم ومحو الأميّة، لكن السؤال التقليديّ عن دور الفنّ في الثورة ظلّ بلا إجابة مقنعة. بات المشهد الثقافي مشوّشاً، وفقيراً، فاليوم كوبا ليست جزيرة بمعنى الجغرافيا وحسب، لقد صار النتاج الثقافي الكوبي أرخبيلاً من منافٍ خارجية وداخلية، من قطيعة وانعزال أو محاولة متعثّرة في البحث عن فسحة ما في الداخل. ما يسم اليوم النتاج الأدبي خلال العقود الخمسة الأخيرة عموماً، هو إغراقه في معالجة المشاكل اليومية أو في انغلاقه على مناخات محدودة.
تحسّنت الأمور قليلاً في السنوات الأخيرة، من دون شكّ، لكن لا بدّ من الانتظار مزيداً من الوقت. في تصريح للروائي الكوبي ليوناردو بادورا، الذي اشتهر بروايته "الرجل الذي كان يحبّ الكلاب"، 2009 والتي انتقد فيها الواقع في بلاده، يقول: "أظنّ أن مساحة التعبير عن الرأي والاختلاف هي في اتّساع، وكذلك مساحة الحرية في الكتابة".