زئبق مسموم يُسمى تنسيقاً

11 مارس 2015

لا تُستَحب ملامسة الزئبق (Getty)

+ الخط -

يُعد الزئبق شديد السُميّة كعنصر كيميائي، ولا تُستَحب ملامسته، وهو، أصلاً وفصلاً، يتحدّر من مادة خام تطفح بها البراكين، وتسمى "السانبار" أو كبريتيد الزئبق. ومن ذا الذي يمكن أن يلم حبيباته إن تناثرت. وأذكر في يونيو/حزيران 1967 أنني كنت واحداً من تلامذة الثانوي الذين قرروا إنقاذ معدات مدرستهم، ونقلها إلى بيوتهم، لكي لا يستولي عليها العدو الذي عرفناه وجربناه سارقاً، فضلاً عن كونه مجرماً. وكان هناك جهاز جديد في المدرسة، عمود لقياس درجة حرارة الجو/ فككناه وتوليت تخبئته فلم أجد له مكاناً أفضل من دسّه بين أعواد جريد النخيل التي جعلناها سقفاً للعريشة. جاءت الحاجّة المرحومة، أم فائق، زوجة عمي، ولا أدري ما الذي تسبب في الثقب الذي حدث في قارورة الزئبق الرقيقة داخل "التيرمومتر" الكبير. وقعت حبيبات الزئبق على رأسها وتناثرت. دهشت المرحومة، وصرخت. كنت على مقربة منها وسمعتها تقول، وهي تتحسس رأسها وتنظر إلى الأرض: ما هذا، رمل أو عفاريت؟ فلم تكن تعرف الزئبق!

ما يُسمى التنسيق الأمني هو مثل ذلك الذي لم تعرفه الحاجة أم فائق، ولم يكن بمقدورها أن تمكسه وسمّته عفريتاً. بل إن الأول يشبه الثاني في الأصل والفصل، لأنه التنسيق الأمني، جاء بفعل بركان، قذفت حممه بما في باطن وعينا، وأحالته إلى غازات وكتل سائلة تجعل الأحياء رماداً وتحرق المعنى.

كثيرون يرون في التنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية والمحتلين منظومة عمل أمني مشتركة، لمطاردة مجموعات تتحفز للمقاومة أو تمارسها. لكن موضوع التنسيق الأمني قدم له وقبلناه مؤقتاً، كمناضلين، باعتباره ذا صلة بعملية سلمية، يُفترض أنها قائمة. ولعملية التنسيق تلك، أصلاً، سبب أساس، نشأ في أثناء التفاوض على اتفاق أوسلو لإعلان المبادئ، عندما طالب الطرف الإسرائيلي أن يؤذنَ له، في المرحلة الانتقالية، التدخل في مناطق السيطرة الأمنية الفلسطينية، بذريعة أن هناك مجموعة تتحفز لشن هجوم، أو القيام بعملية تفجيرية. لم يقبل الطرف الفلسطيني إعطاء الاحتلال هذه الرخصة التي من شأنها إسقاط السلطة معنوياً في يوم ولادتها. لذلك، تأسس التدبير البديل، وهو أن يبلغ الطرف الأمني الإسرائيلي ما لديه من معلومات للطرف الفلسطيني الأمني، على أن يعالج الأخير الأمر، إما بالتحقق من خطأ المعلومات الإسرائيلية، أو بمنع الهجوم، لكي تمضي العملية السلمية في سياقها، ويكون منع الهجوم، بالتحفظ على العناصر المعنية، من دون أن يكون للطرف الأمني الإسرائيلي الحق في التوغل في مناطق A ذات السيطرة الأمنية الفلسطينية. وبخلاف ذلك، لا اتفاق، أصلاً، على أي تنسيق يطابق المعنى الذي يؤخذ في بعض الفضاءات الشعبية الفلسطينية والعربية.

المجلس المركزي، وهو الإطار الوسيط بين برلمان منظمة التحرير ولجنتها المركزية، لم يكن هو الذي قرر التنسيق الأمني، وتعاقد عليه، لكي يعلن عن وقفه. فالطرف المعني بوقفه هو من خاض فيه، ويمكنه شطبه، على أساس أن شروط الاستمرار فيه لم تعد قائمة. فقوات الاحتلال تتوغل بنفسها وتعتقل أو تشتبك، وهي تستبيح كل أراضي الضفة، ولا تنتظر إذناً، والعملية السلمية منهارة. والمحتلون يمارسون كل قبيح، لاستثارة المجتمع الفلسطيني، ولم يعد هناك سبب واحد لاستمرار التنسيق الأمني. وبالطبع، هناك سبب موصول باللا منطق وباللاعدالة، وهو الضغوط التي تُمارس على القيادة الفلسطينية، لكي تستمر في عملية تنسيق أمني، لا يلتزم بمحدداتها الطرف الإسرائيلي. وهؤلاء الذين يضغطون لا يستطيعون، مجتمعين، ليس كف أيدي جيش الاحتلال عن أرضنا وشعبنا، ولا إلزام إسرائيل بالفكرة أو المبدأ، بشروط استمرار التنسيق الأمني. ورحم الله الحاجة "أم فائق".