نشاهد في أولمبياد ريو 2016 الرياضيين يقاتلون من أجل تحقيق الميدالية الذهبية، ليس من أجل تحقيق إنجاز يدوم ليوم أو يومين فقط، بل الهدف هو ترك بصمة تاريخية في عالم الألعاب الأولمبية لسنوات قادمة، وصناعة هذا الإنجاز لا تأتي هدية من السماء بدون عمل كبير.
نشاهد في الألعاب الأولمبية لاعبي جمباز يرسمون لوحات هوائية لا يمكن أن يتصورها العقل، عدّائين يحافظون على قوتهم البدنية بطريقة تثير الإعجاب، رماة يصيبون الصحون بدقة رهيبة ورماة آخرين يصيبون الأهداف الصغيرة وكأنهم يوجهون السهم باليد من مسافة قريبة وليس من مسافة بعيدة.
لكن كل هذا الذي يشاهده العالم على الكاميرات وخلال المنافسات، لا يُظهر ما يفعله هؤلاء الرياضيون الأبطال خلف الكواليس لسنوات طويلة قبل الوصول إلى ساعة الصفر، وهناك الكثير من العوامل التي حولت هؤلاء الرياضيين إلى أبطال يمثلون الوطن وشعبه.
هذه العوامل يمكن اختصارها بالتضحيات التي جعلت منهم أبطالاً بالدرجة الأولى، العمل والجهد والإصرار، مثل الاستيقاظ عند الخامسة فجراً عندما يكون جسدك يبكي لأنه يحتاج إلى قليل من النوم، هذا عدا عن النظام والانضباط الذي يحرمك الكثير من الأمور الجميلة في الحياة.
وعند الوصول إلى ساعة الصفر، في ذلك اليوم لا ينفع الندم لأنه يوم الامتحان يُكرم المرء أو يُهان، في هذا اليوم يظهر من استيقظ باكراً من أجل بذل جهد أكبر، من أجرى التدريبات قلباً وروحاً، من أعطى كل شيء يملكه من أجل الحلم، وليس قبل أربعة أيام أو أربعة أسابيع بل أربع سنوات متتالية من العمل المتواصل.
جبل من الثلج
تُتابع الجماهير الرياضيين في الأولمبياد وتعتقد أنهم موهوبون في الدرجة الأولى، لكن الحقيقة أن الموهبة لوحدها بدون عمل واجتهاد لا تُحقق أي شيء في الرياضة. الرياضيون بالنسبة للجماهير هم كجبل ثلج قوي صلب لا ينكسر بسهولة، لكن ما يخفيه جبل الثلج تحت الماء أكبر بكثير، هناك الفشل، التضحية، خيبات الأمل، العمل، الانضباط والإصرار.
وحتى أن البعض يعتقد أن النجاح يأتي للأشخاص الموهوبين وهذه مقولة خاطئة، لأن الناجح يحتاج إلى جهد وتعب كبيرين لا يمكن تخيلهما ولا يأتي من الطريق السهلة، بل الطريق الوعرة هي المسلك الوحيد إلى النجاح، والتركيز دائماً يأتي على القسم العلوي من جبل الثلج الذي يظهر أمام العين المُجردة وإغفال كل ما ساهم في بناء هذا الجبل.
بولا رادلكليف العداءة البريطانية الأشهر في منافسات العدو الطويل، لم تفز في أي مناسبة بميدالية ذهبية في الألعاب الأولمبية، رغم أنها نجمة عالمية يتحدث عنها الجميع في كل مكان في العالم.
ربما رادلكليف تملك الموهبة الكافية لكي تكون بين أفضل العداءات في العالم، لكنها لا تعمل على مشروع واحد خلال أربع سنوات وهو الميدالية الذهبية الأولمبية، لأنها تصب كامل تركيزها على المنافسات المحلية والعالمية الصغيرة، وبالتالي تغفل أن ذهبية الأولمبياد تحتاج إلى عمل جبار يوازي كل المنافسات الأخرى.
وبالنسبة لرادلكليف فهي لم تبذل ذلك الجهد الكبير ولم تقاتل بغية حصد الميدالية الأغلى في عالم الرياضة، هي تملك الموهبة ومقومات البطل، لكنها لم تستخدم هذه العناصر بإيجابية وبالتالي فشلت في حصد الذهب في أي نسخة شاركت فيها من الألعاب الأولمبية.
الضغط النفسي والذهني
تذرفُ الدموع، تقسو على نفسك، تقاتل، تقوم بجهد مثالي وتصل إلى لحظة ستسقط فيها على الأرض ولا يمكنك المتابعة. تقف على قدميك من جديد، تتسارع ضربات القلب، وتعود للمنافسة من جديد، وفجأة تجد نفسك أمام الجماهير الضخمة في يوم أولمبي طويل لن ينتهي بسهولة.
الضغط النفسي يلعب دوراً كبيراً في تحديد هوية البطل في الألعاب الأولمبية، وهو مثل فارق الشعرة الواحدة بين الحياة والموت وبين النهار والليل. الضغط في المنافسات الأولمبية مختلف تماماً عن سائر المنافسات الرياضية لأن الفرصة تأتي مرة كل أربع سنوات، وفي حال الفشل فإن الرياضي سيُكرر نفس دورة العمل الصعبة على مدار أربع سنوات جديدة.
الألعاب الأولمبية هي اختبار للتحضيرات، الأسلوب وقوة التحمل، وقبل كل هذه العناصر هي اختبار أعصاب بالنسبة لأي رياضي مشارك في الأولمبياد لأنه وبعد أربع سنوات من التحضيرات القاسية يجد نفسه أمام جمهور وكاميرات تراقبه أينما ذهب، وتريد رؤية إن كان سيقدم المطلوب أو يحقق رقماً قياسياً جديداً.
كل هذا الضغط يضع الرياضي في مشكلة، فالخسارة تكون مزعجة كثيراً ولا يمكن الاستفاقة منها بسهولة إلا بعد سنوات، ومثال على ذلك رياضي تعب واجتهد طوال أربع سنوات وفعل المستحيل من أجل الوصول إلى الجهوزية المثالية قبل انطلاق الألعاب الأولمبية، وفجأة يجد نفسه خاسراً، هذا الأمر سيحبطه ويدمره لأنه لم يقف متفرجاً طوال أربع سنوات بل قاتل من أجل تلك الذهبية، وفي النهاية خسر كل شيء بلمح البصر.
هذه الأفكار تدور في عقل العداء عند الانطلاق، تُزعج لاعبة الجمباز قبل قفزتها القوية، تؤثر سلباً على لاعب التنس قبل مواجهة خصمه، تضع ضغطاً لا مثيل له على لاعب كرة القدم الذي يحتاج إلى تركيز كبير على أرض الملعب. الخوف من الخسارة يُحول أقوى الرياضيين إلى أطفال، كل هذا الضغط النفسي كفيل بإنهاء مشوار رياضي في الألعاب الأولمبية، لأن المنافس بحاجة دائماً إلى شجاعة وقوة لا مثيل لها.
كيف تصبح بطلاً أولمبياً؟ سؤال لا يمكن الإجابة عليه بسطر أو سطرين فقط، لأن البطل في حدث رياضي ضخم مثل الأولمبياد بحاجة إلى عين تنظر إلى ما يوجد تحت جبل الثلج الضخم وليس ما فوق البحر، وفي النهاية صناعة بطل لا تحصل بين ليلة وضحاها.