بعمله الذي حمل عنوان "دفتر طريق - كتابات أدبية" أضاف المؤلف الفرنسي ريجيس دوبري (1940) إلى رصيده الذي يفوق سبعين كتاباً أثراً جديداً ضخماً تجاوز عدد صفحاته الألف وقارب وزنه الكيلوغرام!
في زمن التغريدات المقتضبة والتدوينات الموجزة يبدو نشر كتاب بهذا الحجم تجذيفاً ضدّ التيّار وسيراً مبرمجاً نحو الهاوية! ما يدفعنا إلى التساؤل: هل أضاع ريجيس دوبري في "دفتر الطريق" طريقه، أم تراه يدعونا إلى رحلة أخرى من رحلاته المخالفة للمألوف؟
ألف صورة لدوبري واحد
إذا جاز لنا أن نختزل شخصاً مثل ريجيس دوبري في بعض كلمات فليس أفضل من أن ننعته بـكونه "صاحب الألف صورة" رغم أن نعتاً كهذا يبدو مراوغاً حمّال أوجه. فهو يقوم -في ظاهره- على الإيجاز والاختصار، ولكنّه يفضي بنا -في الباطن- إلى شيء غير يسير من الإطناب والإسهاب.
ولكن، بعيداً عن مقتضيات البلاغة وعن دواعي التمثيل، فإنّ الثقافة الفرنسية اليوم تعتبر دوبري أحد آخر أعلامها الكبار لأسباب عديدة تختلف باختلاف الأجيال وتتعدّد بتعدّد المواقع وتتنوّع بتنوّع السياقات.
فدوبري -في وعي شباب العشريّة الحالية من القرن الحادي والعشرين- هو ذلك الشخص الذي يحاول أن يرسم لمسألة العلمانية في فرنسا مسارات جديدة مغايرة من خلال كتابه "اللائكية يوماً بيوم- دليل عملي" يناير/كانون ثاني 2016؛ وهو بالنسبة إليهم ذلك الكاتب الذي يتحدّث عن المخدّرات بأسلوب استعاري من خلال عمل يبدو كالرواية وما هو بالرواية، وضعه تحت عنوان "السيدة ح" 2015، في محاولة منه لتعرية ما يسمّيه "امبراطورية الحشيش العظمى"؛ وهو أيضاً ذاك الذي سعى عبر إسهامه في كتاب جماعي مشترك حمل عنوان "من هي داعش؟" 2015، إلى محاولة تفكيك ما يسمّيه "ظاهرة الإرهاب الجديد".
بهذا المعنى، يظلّ دوبري في نظر شباب فرنسا اليوم كاتباً في منتهى الراهنيّة رغم تجاوزه السبعين من العمر، تماماً مثلما كان في نظر الأجيال السابقة ابن لحظته ولحظتهم وضميراً للتحوّلات التي لا تنتهي. وما كتابه الأخير "دفتر طريق" إلا شهادة على هذه الرحلة الطويلة التي استغرقت أكثر من نصف قرن.
بحثاً عن الأصول العميقة
منذ الصفحات الأولى للكتاب تتضح لنا غايات دوبري ومقاصده، فهو يضع بين يدي القارئ شذرات ممّا يمكن أن نعتبره سيرته الذاتية في بُـعْـدٍ واحد من أبعادها لا غير، بعدها الأدبي كما تكشف لنا عنه النصوص التي وضعها في صيغة المتكلّم المفرد طيلة ما يزيد عن نصف قرن. ولأنّنا لا نجد تعليلاً صريحاً مباشراً لاقتصاره على هذا البعد دون سواه، في هذه الصيغة دون غيرها، فالمرجّح لدينا أنّ دوبري يريد أن يعود بنا إلى الأصول، أي إلى تلك الذاكرة الخفيّة الحيّة التي انبثق عنها كلّ شيء.
ومن هذا المنطلق، يبدو الكتاب بصفحاته التي فاقت الألف أقرب إلى العمل الأركيولوجيّ القائم على الحفر والتنقيب والتعرية ليست له من غاية سوى الوصول إلى الطبقة الأولى، النواة، تلك التي تشكّلت في بواكير طفولة دوبري وظلّت تؤثّر فيه وتفعل فعلها في مساراته التي لا تنتهي، دون أن يستقرّ فيها صاحبها على حال. ونعني بالطبقة الأولى النواة نشأة دوبري في عائلة باريسيّة من علية القوم أجبرته منزلتُها الاجتماعيّة على أن يتعلّم منها كيف يثور عليها وعلى القيم السائدة، حتّى بدا في مرآة نفسه وفي نظر الآخرين أقرب إلى الشخص المتمرّد بالفطرة، الثائر بالسليقة، الرافض بالسجيّة.
تمرّد وثورة ورفض قاده إلى اختيار الفلسفة مجالاً لتخصّصه الأكاديمي فاجتاز اختبارات الانتساب إلى دار المعلمين العليا بباريس، وكان الأول على دفعة المقبولين بها سنة 1960، وانفتحت له بذلك آفاق جديدة أتاحت لتكوينه الأدبي الأساسي أن يكتسب عمقاً فكرياً وأن يكون منشدّاً إلى الراهن، في سياق من الالتزام غلبت فيه النوازع العمليّة على المواقف التنظيرية الهلاميّة. وبمجرّد حصوله على شهادة التبريز في الفلسفة سنة 1965 ضاقت عليه فرنسا بما رحُـبـت وأدرك أنّ الأرض يمكن أن تكون مجالاً واسعاً لاحتضان أحلامه والتزامه.
جرياً وراء صورة
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي منعطف النصف الثاني من القرن العشرين، عاش العالم على وقع حرب باردة صامتة تحرّكها نوازع الهيمنة والتحكّم؛ وحروب أخرى مشتعلة صاخبة غايتها بلوغ الاستقلال والتحرّر. وفي هذا السياق الكوني المضطرب لم يكن من الممكن لريجيس دوبري أن يظلّ على الحياد.
اقــرأ أيضاً
ولكنّه على عكس كثير من وجوه الأنتلجنسيا الفرنسية لم يكتـف بالسير في مظاهرات الشجب والتنديد أو بإصدار بيانات المناصرة والتأييد، ولم يتوقّف عند مجرّد التعبير عن التضامن مع شعب فيتنام أو الجزائر، بل قرّر خوض مغامرة مغايرة سلك فيها طريقاً بكراً كان فيها مأخوذاً بحماسة الأمميّة الثوريّة ومدفوعاً بعشقه للصورة. فقد انتقل إلى أميركا الجنوبيّة من أجل إنجاز شريط وثائقيّ عن الثورات التي كانت تضطرم هناك وتُـلهم أجيالاً من الشباب في مثل سنّه.
ولكنّ الإقامة التي قدّر ريجيس دوبري ألاّ تتجاوز أسابيع معدودة أو في أقصى الحالات أشهراً معلومة إلى حين الفراغ من تصوير شريطه الوثائقي انقلبت إلى ما يشبه الكابوس، رغم أن بدايتها كانت حلماً ورديّاً من ذاك الذي يطمح إليه كلّ متمرّد بالفطرة، ثائر بالسليقة، رافض بالسجيّة.
ففي بداية الرحلة إلى أميركا الجنوبيّة تعرّف دوبري على أبرز أيقونتين ألهبتا حماس شباب العالم الثائر، ونعني بذلك الزعيمين اليساريّين تشي غيفارا 1928-1967 وفيدال كاسترو 1926 اللّذين صارا من أصدقائه ومن أقرب رفاقه إليه. ولكنّ سوء طالعه أوقعه بين أيدي القوات الحكومية البوليفيّة التي رأت فيه عدوّاً أجنبياً وكادت تمضي به إلى حبل المشنقة قبل أن تتراجع وتوقع عليه عقوبة السجن ثلاثين عاماً.
وقد كان من حظّ دوبري أن وجد في تلك الفترة من يقف إلى جانبه ومن يسعى إلى إخراجه من محنته، وفي طليعة هؤلاء المفكر والكاتب الفرنسي جون بول سارتر 1905-1980. وبعد ست سنوات قضاها بين الاعتقال والسجن 1967-1973 عاد الابن الضال إلى الوطن متوّجاً بتعاطف غير مسبوق وبشهرة أمكنه أن يحصّلها بفضل الأعمال التي كتبها ونشرها وهو في السجن في حضرة جلاد وأربعة جدران.
كتابات السجن وطعم الحرية
لم يتسنّ لدوبري أن ينجز الشريط الذي أراد أن يوثّق من خلاله الثورات في أميركا الجنوبية. ولكنّه كتب -وهو بين المعتقل والسجن- جملة من المؤلفات على رأسها أقصوصتا "شاب يافع مُواكب" و"حدود". أمّا الأقصوصة الأولى التي يمكن تعريب عنوانها حرفيّاً بـ"شاب يافع على الصفحة" فقد حملت طعم النبوءة لأنّ اسم مؤلّفها ظلّ فعلاً وعلى امتداد سنوات في واجهة صفحات الجرائد الفرنسية والعالمية؛ وأمّا الأقصوصة الثانية فقد كان عنوانها علامة على حيرة جيل بأسره تاه أفراده بين الحدود ولم يجدوا لهم مستقرّاً في عالم تتنازعه التيّارات والأزمات. وإلى جانب هاتين الأقصوصتَين نشر دوبري وهو في سجنه كتابه "الثورة داخل الثورة؟ الصراع المسلّح والنزاع السياسي في أميركا اللاتينيّة" 1967، ثمّ كتابَيْن آخرين:"نحن التومباماروس" و"منهم نتعلّم"، وهما كتابان ظهرا سنة 1971 في سِـفـر واحد.
ومع عودته إلى فرنسا سنة 1973، انخرط دوبري في ثلاثة مسارات مختلفة كانت -رغم تباينها الظاهر- مصدر إثراء لتجربته في الكتابة وتعميق لنظرته للحياة:
أمّا المسار الأوّل، فقد ظلّ فيه مشدوداً إلى ماضيه القريب في أميركا الجنوبية وإلى سنوات سجنه واعتقاله هناك. وكان من أبرز ثماره كتبه "حرب عصابات تشي غيفارا" 1974، و"حوارات مع سلفادور آلندي حول الوضع في الشيلي" 1974، و"يوميات بورجوازي صغير بين نارَيْن وأربعة جدران" 1976.
وأما المسار الثاني، فهو ذاك الذي كان دوبري يحاول فيه جاهداً أن يفتح عينيه ليرى تحت أشعة الشمس الساطعة الحقائق الجديدة التي أخذت فرنسا تعيش على وقعها زمن السبعينات. وذلك ما رسمه من خلال رواية "غير المرغوب فيه" 1975 ورواية "الثلج يحترق" 1977 اللّتين كانتا أشبه بجرد حساب مزدوج مع أميركا الجنوبية الثائرة الطوباوية وأوروبا الغارقة في مركزيّتها الامبريالية.
وأمّا المسار الثالث والأخير، فهو ذاك الذي تمكّن فيه ريجيس دوبري من إيجاد توازنه والعودة إلى فرنسا وعوالمها الفكرية والفنية والأدبية من خلال الصداقة التي ربطته بالممثل إيف مونتون 1921-1991 والممثلة سيمون سينيوري 1921-1985 والكاتب والمخرج كريس ماركس 1921-2012 والسينمائي الشهير كوستا غافراس 1933؛ ومن خلال العلاقة المميزة التي أقامها مع السياسي فرنسوا ميتران 1916-1996 خلال حملة ترشّحه الأولى لرئاسة الجمهورية 1974، حملة باءت بالفشل أعقبتها ثانية 1981 قادت الرفيقين اليساريين إلى قصر الإليزيه: ميتران رئيساً للجمهورية، ودوبري مستشاراً له.
ولكنّ "صاحب الألف صورة" لم يرض بالبقاء في حضن المؤسسة، حتّى إن كانت الرئاسة ذاتها. فقد طلّق رفيق دربه ميتران وعاد إلى الصورة، حبّه الأوّل وموضوع شغفه الأخير لينجز فيها وبها ومن أجلها أبرز أعماله النظريّة وخاصّة أطروحته التي حملت عنوان "حياة الصورة وموتها" 1993، قبل أن يبعث إلى الوجود مبحثاً جديداً هو مبحث "الميديولوجيا" (أو علم الميديا) الذي يتخذ من وسائل الاتصال والتواصل الحديثة موضوعاً له فينكبّ على درسها وعلى بيان أشكال تأثيرها في الإنسان وكيفيّة صياغتها لوعيه، تأليفاً وتحريفاً.
ولم يقتصر هذا المنظور النقديّ الذي اعتمده ريجيس دوبري على الصورة وحدها، بل امتدّ ليشمل مجالات أخرى لا تقلّ عنها أهميّة، ونعني بذلك على وجه الخصوص مجال الفكر السياسي من خلال كتب عديدة أبرزها "نقد العقل السياسي" 1981، و"أسطورة معاصرة: حوار الحضارات" 2007، و"أحلام اليسار" 2012؛ فضلاً عن مواقفه من المسألة الدينية، كما يتجلّى ذلك في آثاره "تعليم الظاهرة الدينية في المدرسة اللائكية" 2002، "النار المقدّسة: وظيفة الظاهرة الدينية" 2003، وغيرها.
(كاتب تونسي)
اقــرأ أيضاً
في زمن التغريدات المقتضبة والتدوينات الموجزة يبدو نشر كتاب بهذا الحجم تجذيفاً ضدّ التيّار وسيراً مبرمجاً نحو الهاوية! ما يدفعنا إلى التساؤل: هل أضاع ريجيس دوبري في "دفتر الطريق" طريقه، أم تراه يدعونا إلى رحلة أخرى من رحلاته المخالفة للمألوف؟
ألف صورة لدوبري واحد
إذا جاز لنا أن نختزل شخصاً مثل ريجيس دوبري في بعض كلمات فليس أفضل من أن ننعته بـكونه "صاحب الألف صورة" رغم أن نعتاً كهذا يبدو مراوغاً حمّال أوجه. فهو يقوم -في ظاهره- على الإيجاز والاختصار، ولكنّه يفضي بنا -في الباطن- إلى شيء غير يسير من الإطناب والإسهاب.
ولكن، بعيداً عن مقتضيات البلاغة وعن دواعي التمثيل، فإنّ الثقافة الفرنسية اليوم تعتبر دوبري أحد آخر أعلامها الكبار لأسباب عديدة تختلف باختلاف الأجيال وتتعدّد بتعدّد المواقع وتتنوّع بتنوّع السياقات.
فدوبري -في وعي شباب العشريّة الحالية من القرن الحادي والعشرين- هو ذلك الشخص الذي يحاول أن يرسم لمسألة العلمانية في فرنسا مسارات جديدة مغايرة من خلال كتابه "اللائكية يوماً بيوم- دليل عملي" يناير/كانون ثاني 2016؛ وهو بالنسبة إليهم ذلك الكاتب الذي يتحدّث عن المخدّرات بأسلوب استعاري من خلال عمل يبدو كالرواية وما هو بالرواية، وضعه تحت عنوان "السيدة ح" 2015، في محاولة منه لتعرية ما يسمّيه "امبراطورية الحشيش العظمى"؛ وهو أيضاً ذاك الذي سعى عبر إسهامه في كتاب جماعي مشترك حمل عنوان "من هي داعش؟" 2015، إلى محاولة تفكيك ما يسمّيه "ظاهرة الإرهاب الجديد".
بهذا المعنى، يظلّ دوبري في نظر شباب فرنسا اليوم كاتباً في منتهى الراهنيّة رغم تجاوزه السبعين من العمر، تماماً مثلما كان في نظر الأجيال السابقة ابن لحظته ولحظتهم وضميراً للتحوّلات التي لا تنتهي. وما كتابه الأخير "دفتر طريق" إلا شهادة على هذه الرحلة الطويلة التي استغرقت أكثر من نصف قرن.
بحثاً عن الأصول العميقة
منذ الصفحات الأولى للكتاب تتضح لنا غايات دوبري ومقاصده، فهو يضع بين يدي القارئ شذرات ممّا يمكن أن نعتبره سيرته الذاتية في بُـعْـدٍ واحد من أبعادها لا غير، بعدها الأدبي كما تكشف لنا عنه النصوص التي وضعها في صيغة المتكلّم المفرد طيلة ما يزيد عن نصف قرن. ولأنّنا لا نجد تعليلاً صريحاً مباشراً لاقتصاره على هذا البعد دون سواه، في هذه الصيغة دون غيرها، فالمرجّح لدينا أنّ دوبري يريد أن يعود بنا إلى الأصول، أي إلى تلك الذاكرة الخفيّة الحيّة التي انبثق عنها كلّ شيء.
ومن هذا المنطلق، يبدو الكتاب بصفحاته التي فاقت الألف أقرب إلى العمل الأركيولوجيّ القائم على الحفر والتنقيب والتعرية ليست له من غاية سوى الوصول إلى الطبقة الأولى، النواة، تلك التي تشكّلت في بواكير طفولة دوبري وظلّت تؤثّر فيه وتفعل فعلها في مساراته التي لا تنتهي، دون أن يستقرّ فيها صاحبها على حال. ونعني بالطبقة الأولى النواة نشأة دوبري في عائلة باريسيّة من علية القوم أجبرته منزلتُها الاجتماعيّة على أن يتعلّم منها كيف يثور عليها وعلى القيم السائدة، حتّى بدا في مرآة نفسه وفي نظر الآخرين أقرب إلى الشخص المتمرّد بالفطرة، الثائر بالسليقة، الرافض بالسجيّة.
تمرّد وثورة ورفض قاده إلى اختيار الفلسفة مجالاً لتخصّصه الأكاديمي فاجتاز اختبارات الانتساب إلى دار المعلمين العليا بباريس، وكان الأول على دفعة المقبولين بها سنة 1960، وانفتحت له بذلك آفاق جديدة أتاحت لتكوينه الأدبي الأساسي أن يكتسب عمقاً فكرياً وأن يكون منشدّاً إلى الراهن، في سياق من الالتزام غلبت فيه النوازع العمليّة على المواقف التنظيرية الهلاميّة. وبمجرّد حصوله على شهادة التبريز في الفلسفة سنة 1965 ضاقت عليه فرنسا بما رحُـبـت وأدرك أنّ الأرض يمكن أن تكون مجالاً واسعاً لاحتضان أحلامه والتزامه.
جرياً وراء صورة
مع انتهاء الحرب العالمية الثانية وفي منعطف النصف الثاني من القرن العشرين، عاش العالم على وقع حرب باردة صامتة تحرّكها نوازع الهيمنة والتحكّم؛ وحروب أخرى مشتعلة صاخبة غايتها بلوغ الاستقلال والتحرّر. وفي هذا السياق الكوني المضطرب لم يكن من الممكن لريجيس دوبري أن يظلّ على الحياد.
ولكنّه على عكس كثير من وجوه الأنتلجنسيا الفرنسية لم يكتـف بالسير في مظاهرات الشجب والتنديد أو بإصدار بيانات المناصرة والتأييد، ولم يتوقّف عند مجرّد التعبير عن التضامن مع شعب فيتنام أو الجزائر، بل قرّر خوض مغامرة مغايرة سلك فيها طريقاً بكراً كان فيها مأخوذاً بحماسة الأمميّة الثوريّة ومدفوعاً بعشقه للصورة. فقد انتقل إلى أميركا الجنوبيّة من أجل إنجاز شريط وثائقيّ عن الثورات التي كانت تضطرم هناك وتُـلهم أجيالاً من الشباب في مثل سنّه.
ولكنّ الإقامة التي قدّر ريجيس دوبري ألاّ تتجاوز أسابيع معدودة أو في أقصى الحالات أشهراً معلومة إلى حين الفراغ من تصوير شريطه الوثائقي انقلبت إلى ما يشبه الكابوس، رغم أن بدايتها كانت حلماً ورديّاً من ذاك الذي يطمح إليه كلّ متمرّد بالفطرة، ثائر بالسليقة، رافض بالسجيّة.
ففي بداية الرحلة إلى أميركا الجنوبيّة تعرّف دوبري على أبرز أيقونتين ألهبتا حماس شباب العالم الثائر، ونعني بذلك الزعيمين اليساريّين تشي غيفارا 1928-1967 وفيدال كاسترو 1926 اللّذين صارا من أصدقائه ومن أقرب رفاقه إليه. ولكنّ سوء طالعه أوقعه بين أيدي القوات الحكومية البوليفيّة التي رأت فيه عدوّاً أجنبياً وكادت تمضي به إلى حبل المشنقة قبل أن تتراجع وتوقع عليه عقوبة السجن ثلاثين عاماً.
وقد كان من حظّ دوبري أن وجد في تلك الفترة من يقف إلى جانبه ومن يسعى إلى إخراجه من محنته، وفي طليعة هؤلاء المفكر والكاتب الفرنسي جون بول سارتر 1905-1980. وبعد ست سنوات قضاها بين الاعتقال والسجن 1967-1973 عاد الابن الضال إلى الوطن متوّجاً بتعاطف غير مسبوق وبشهرة أمكنه أن يحصّلها بفضل الأعمال التي كتبها ونشرها وهو في السجن في حضرة جلاد وأربعة جدران.
كتابات السجن وطعم الحرية
لم يتسنّ لدوبري أن ينجز الشريط الذي أراد أن يوثّق من خلاله الثورات في أميركا الجنوبية. ولكنّه كتب -وهو بين المعتقل والسجن- جملة من المؤلفات على رأسها أقصوصتا "شاب يافع مُواكب" و"حدود". أمّا الأقصوصة الأولى التي يمكن تعريب عنوانها حرفيّاً بـ"شاب يافع على الصفحة" فقد حملت طعم النبوءة لأنّ اسم مؤلّفها ظلّ فعلاً وعلى امتداد سنوات في واجهة صفحات الجرائد الفرنسية والعالمية؛ وأمّا الأقصوصة الثانية فقد كان عنوانها علامة على حيرة جيل بأسره تاه أفراده بين الحدود ولم يجدوا لهم مستقرّاً في عالم تتنازعه التيّارات والأزمات. وإلى جانب هاتين الأقصوصتَين نشر دوبري وهو في سجنه كتابه "الثورة داخل الثورة؟ الصراع المسلّح والنزاع السياسي في أميركا اللاتينيّة" 1967، ثمّ كتابَيْن آخرين:"نحن التومباماروس" و"منهم نتعلّم"، وهما كتابان ظهرا سنة 1971 في سِـفـر واحد.
ومع عودته إلى فرنسا سنة 1973، انخرط دوبري في ثلاثة مسارات مختلفة كانت -رغم تباينها الظاهر- مصدر إثراء لتجربته في الكتابة وتعميق لنظرته للحياة:
أمّا المسار الأوّل، فقد ظلّ فيه مشدوداً إلى ماضيه القريب في أميركا الجنوبية وإلى سنوات سجنه واعتقاله هناك. وكان من أبرز ثماره كتبه "حرب عصابات تشي غيفارا" 1974، و"حوارات مع سلفادور آلندي حول الوضع في الشيلي" 1974، و"يوميات بورجوازي صغير بين نارَيْن وأربعة جدران" 1976.
وأما المسار الثاني، فهو ذاك الذي كان دوبري يحاول فيه جاهداً أن يفتح عينيه ليرى تحت أشعة الشمس الساطعة الحقائق الجديدة التي أخذت فرنسا تعيش على وقعها زمن السبعينات. وذلك ما رسمه من خلال رواية "غير المرغوب فيه" 1975 ورواية "الثلج يحترق" 1977 اللّتين كانتا أشبه بجرد حساب مزدوج مع أميركا الجنوبية الثائرة الطوباوية وأوروبا الغارقة في مركزيّتها الامبريالية.
وأمّا المسار الثالث والأخير، فهو ذاك الذي تمكّن فيه ريجيس دوبري من إيجاد توازنه والعودة إلى فرنسا وعوالمها الفكرية والفنية والأدبية من خلال الصداقة التي ربطته بالممثل إيف مونتون 1921-1991 والممثلة سيمون سينيوري 1921-1985 والكاتب والمخرج كريس ماركس 1921-2012 والسينمائي الشهير كوستا غافراس 1933؛ ومن خلال العلاقة المميزة التي أقامها مع السياسي فرنسوا ميتران 1916-1996 خلال حملة ترشّحه الأولى لرئاسة الجمهورية 1974، حملة باءت بالفشل أعقبتها ثانية 1981 قادت الرفيقين اليساريين إلى قصر الإليزيه: ميتران رئيساً للجمهورية، ودوبري مستشاراً له.
ولكنّ "صاحب الألف صورة" لم يرض بالبقاء في حضن المؤسسة، حتّى إن كانت الرئاسة ذاتها. فقد طلّق رفيق دربه ميتران وعاد إلى الصورة، حبّه الأوّل وموضوع شغفه الأخير لينجز فيها وبها ومن أجلها أبرز أعماله النظريّة وخاصّة أطروحته التي حملت عنوان "حياة الصورة وموتها" 1993، قبل أن يبعث إلى الوجود مبحثاً جديداً هو مبحث "الميديولوجيا" (أو علم الميديا) الذي يتخذ من وسائل الاتصال والتواصل الحديثة موضوعاً له فينكبّ على درسها وعلى بيان أشكال تأثيرها في الإنسان وكيفيّة صياغتها لوعيه، تأليفاً وتحريفاً.
ولم يقتصر هذا المنظور النقديّ الذي اعتمده ريجيس دوبري على الصورة وحدها، بل امتدّ ليشمل مجالات أخرى لا تقلّ عنها أهميّة، ونعني بذلك على وجه الخصوص مجال الفكر السياسي من خلال كتب عديدة أبرزها "نقد العقل السياسي" 1981، و"أسطورة معاصرة: حوار الحضارات" 2007، و"أحلام اليسار" 2012؛ فضلاً عن مواقفه من المسألة الدينية، كما يتجلّى ذلك في آثاره "تعليم الظاهرة الدينية في المدرسة اللائكية" 2002، "النار المقدّسة: وظيفة الظاهرة الدينية" 2003، وغيرها.
(كاتب تونسي)