رياض البندك... سيرة لحنٍ منسيّ

11 فبراير 2018
بيت لحم في بدايات القرن الماضي (Getty)
+ الخط -
التصقت الأغنية الشعبية والتراثية بفلسطين، ووصلت القوالب الغنائية الشعبية إلى نحو 14 قالبًا، حتى تبيّن لغير المهتمين والباحثين أن الزخم يحيط بكل ما هو شعبي، وبدا كأن سمة الأغنية تراثية شعبية، وليست فنية. بالنظر إلى قلة البحث الرصين والاجتهاد والتوثيق في قطاع الموسيقى، لا يبدو هذا التوصيف دقيقًا؛ فالبحث في المخزون السمعي وسجلات واحد من الملحنين الفلسطينيين لاكتشاف أثره في الموسيقى العربية، كفيل بنسج خيوط جدية في وجهة النظر الخاصة بتاريخ وشكل الموسيقى في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين.

حين تُذكر الإذاعة والأغنية الفنية، لا ينفك الحديث بينهما؛ فقد كانت الإذاعة مركزًا لحفظ الألحان وجمع شتات الملحنين، ضمن بيئة عربية واحدة. الخصوصية الوحيدة التي كانت عليها فلسطين هي أن الظروف السياسية والاجتماعية بدّلت في شكل الأغنية وروحها، لكن ما استقر في الذاكرة بعد اندثار الزمن بدا شحيحًا، حتى على مستوى اكتشاف الملحنين والعازفين والشيوخ المدّاحين، فالملحنين والعازفين كانوا كثر في مطلع القرن العشرين وما تلاه، ويُعرف منهم الملحّن رياض البندك ويحيى اللبابيدي، وأيضاً عبد السلام الأقرع، وإلياس شهلا، وجوليا السلطي، وحسين النشاشيبي، وغيرهم الكثير.

خلال الثورات التي اندلعت في الثلاثينيات وقبل النكبة، برز حليم الرومي، وماري عكاوي، وروحي خماش؛ الأخير كانت له تجربة فريدة مبدعة في بلاد الرافدين عبر سماعياته التي أثرْت الموسيقى العراقية، ومنها سماعي النهاوند الشهير، إضافة إلى يحيى السعودي ويوسف البتروني اللذين انتقلا إلى إذاعة دمشق بعد النكبة عام 1948.

اعتمدت الأغنية الفلسطينية الفنية على القالب التقليدي في بنائها، حافظ الملحنون على بساطة التعبير، خصوصًا أنهم لحّنوا كثيرًا من المرثيات؛ فكتب وقتها الشاعر الشعبي نوح إبراهيم مرثية الأبطال الذين قاموا الاستعمار البريطاني في مطلع الثلاثينيات. وحين وقعت حرب عام 1948، عاد المزاج الفني إلى حالته الثورية التي لم تنقطع، لكنها كانت تتأثر بظروف الغربة والحنق؛ فعُزف وقتها أغنية، "هز الرمح بعود الزين" وتلاها في الشطر الثاني سؤال لتثبيت الهوية "وانتوا يا نشاما منين؟"، وصار الحديث عن البطولة وسلاح الثوار والهموم بدل الحب والمغازلات والحياة الوردية والمزاج العالي، حتى أن الموسيقى في ما بعد، أي وصولًا إلى الانتفاضة الأولى، حملت معها لون النضال المعبّد بحب الأرض والعفوية في التعبير عن الهوية الوطنية والأسى الدفين، وعبرت عنها الدلعونة وغيرها.

لكن، رغم هذا، لا يمكننا إغفال الحركة الموسيقية الفلسطينية قبل الـ 1948. هنا، سنقف عند تجربة رياض البندك (1924 – 1992)، الذي صادفت ذكرى رحيله السابع من الشهر الجاري.


البداية في الأرض المقدسة
هو رياض بن عيسى بن باسيل البندك، كان أحد رواد الأغنية الفلسطينية في مطلع القرن العشرين، ويستحق أن نفرد لجزء من مخزونه الموسيقي الضائع، مساحة تُذكر في التاريخ الفني الفلسطيني. درس الموسيقى في مدرسة "تراسنطة"؛ أي "الأرض المقدسة" في القدس مطلع الثلاثينيات، والتي أسسها الآباء الفرنسيسكان حسبما أورد كتاب "التاريخ المصور للشعب الفلسطيني 1876 – 1948" للمؤلف وليد الخالدي، وتأثر بوالده عيسى البندك، رئيس بلدية بيت لحم وصاحب جريدة "صوت الشعب"، وعلى إثر صيت والده وأيضًا موهبته الشخصية، ساهم البندك الابن في تأسيس إذاعة صوت العرب في مصر، وإدارة وتنظيم أقسام الموسيقى في إذاعات عربية أخرى، مثل إذاعة دمشق التي شكل فيها فرقة موسيقية وضم إليها أشهر العازفين، من بينهم فريد السلفيتي وعبود عبد العال وسليم سروه وميشيل عوض.

في إذاعة القاهرة، سجل لحن أغنية "تحية عرب فلسطين إلى أرض الكنانة"، وهي من كلمات ابن مدينة يافا الشاعر والصحافي سعيد بن جرجس العيسى، لكن هذه الأغنية غير متوفرة وتحتاج إلى جهد بحثي للعثور عليها، كما أنه قابل جمال عبد الناصر الذي أبدى إعجابه بفن البندك ويقال إن حدث وفاة عبد الناصر حال دون إتمام لحن لأم كلثوم مقدم من البندك.

لم تكن مدرسة تراسنطة مرجعًا وحيدًا للبندك، بل يذكر أيضًا أساتذته الذين تتلمذ موسيقيًا بإشرافهم، مثل يوسف البتروني ويحيى اللبابيدي، أما فاضل النمر الذي كان مدير مدرسته؛ فقد كان له تأثير عليه رغم اعتراض والده. يقال إن النمر عازف كمان، لكن ليس للأمر أي دليل رسمي موثق كي نتعرّف إلى تجربته. وقيل إن والده كان مناضلًا شديد الشكيمة، لكنه وقف ضد تسديد ابنه ضربة حظ فنية في حياته، إلا أن البندك الابن لم يتنكر لإحساسه وقد جاءت النتيجة بحجم موسيقار وأكثر، فهو التقى بالفنانة فايزة أحمد، وبعد أن اكتشف جمال صوتها، لحن لها موشحًا "امسحوا عن ناظري كحل السهاد"، من كلمات الشاعر ابن هانئ الأندلسي.

من خلال العلاقة الفنية التي جمعت رياض البندك بفايزة أحمد وإصراره على تقديم طوق النجاة لها لخلق بيئة جمالية فنية يزهو بها الاثنان، تعرفت إلى المعنى الحقيقة للتكامل بين الملحن والمغني في مسألة اكتشاف النغم وأبعاد الصوت، التي من خلالها يبرز عنصر التكثيف اللغوي عبر الكشف عن الجمال في العُرب، والسيطرة على القطعة الموسيقية حتى من خلال توارد الأفكار التي لها علاقة بكمالة العيش الواحد بين فنانين أشقياء في حالة فنية اجتماعية، وكم كانت خجولة فايزة أحمد.

روح هذا الموشح الأندلسي وحاله ينطبق تمامًا على حالة فايزة ويتسق مع إصرار البندك على تبنيها. يقول إنه كان يقسو عليها، لكنها تفوقت وأصبحت فايزة التي نعرفها بأغنيات كثيرة، مثل "يما القمر عالباب" و"أنا قلبي ليك ميال"، الأغنيتان اللتان لحّنهما محمد الموجي.


مخزون موسيقي وألحان مفقودة
تأثر البندك بالمناخ الموسيقي؛ فراح يلحّن موشحًا آخر، كما تقول بعض المصادر، للشاعر الفلسطيني، ابن مدينة حيفا، حسن البحيري، يقول فيه: "أنت طيف أحسه في الأماني، يا بعيدًا وأنت في وجداني". هذا الموشح من بين الموشحات التي نبحث عنها، إضافة إلى أغنية "مسكين الطير غنى" التي لحنها أثناء ذهابه إلى امتحان موسيقي في الإذاعة الفلسطينية، وكان من بين الحضور الملحن يحيى اللبابيدي، لكن هذا اللحن أيضًا لا يزال من مفقودًا.

كان الفنان الكوميدي والشاعر الغنائي الموهوب نجيب نجم قد كتب كلمات أغنية "يا عيني عالصبر" بعد هزيمة عام 1967، والتي غناها وديع الصافي ولحنها البندك على مقام الهزام، فرع من فروع مقام السيكاه. ربما اختار البندك هذا المقام الشفاف لما فيه من رقة في العاطفة، ومنه راحة الأرواح بدرجة ركوز على "مي نصف بيمول". وفي الأغنية يبرز مقام الصبا أيضًا؛ حيث يختمر الحزن كي يدل على النكسة، بل وفيها انتقالة موسيقية جميلة وفارقة عند جملة "يا ليل الصبر يا مسهر دموع العين، أنا ملاح وتاه مني سوى شطين.. مصير الصبر حيوصل مراكبنا، ونتقابل أنا وانت بحبايبنا".

خلال رحتله بين عواصم المدن العربية، بيروت والقاهرة ودمشق، لحّن البندك لأحد مؤلفي الأغاني، حسين طنطاوي، قصيدته "هلموا هلموا شباب العرب، إلى المجد والمجد للأقوياء.. إذا ما اتحدنا بلغنا الأرب، وعند السماء رفعنا اللواء". هذه الأنشودة الوطنية قدمها في إذاعة صوت العرب، إضافة إلى نشيد "نداء العروبة" الذي كتبه السوري عبد السلام العجيلي، ويقول فيه: "السهول والرُبا رددت ندانا.. حين جردنا الظبي نفتدي حمانا". لحنها البندك على مقام العجم، وهي مقطوعة لها رهبة تشبه بعض أجزاء سيمفونية بتهوفن الخامسة. كما أن للبندك مجموعة ألحان غير متوفرة مثل أغنية "آه من عينيك" وهي الأغنية الأولى التي قدمها في أول حفل له في مدينة دمشق، وقد حفظتها ماري جبران وذاع صيتها في بيروت وتم تسجيلها في الإذاعة اللبنانية.

شاعت ألحان البندك بين قامة من الفنانين، فصاحب أغنيات "الناس المغرمين"، و"ساكن في حي السيدة"، و"جميل وأسمر"، الفنان المصري محمد عبد المطلب، غنّى أيضًا "تسلم إيدين اللي اشترى"، وهو اللحن الذي وضعه البندك، رغم أن كثيرًا من المصادر غير الدقيقة تقول إنه لحن لمحمود كامل.

كما قدم ألحانه لفنانين آخرين، مثل محمد قنديل، وزكية حمدان، وكارم محمود صاحب أغنية "عنابي"، وكان من بين أجمل ألحانه "يا من سقانا كؤوس الهجر" التي غنتها فاتن الحناوي، وأغنيتي "زي الطير يا حبيبي بتهجر" و"إمتى الهوى ينصف حبيبين" بصوت سعاد محمد. وكذلك لحّن لنور الهدى "مزيدًا من النور يا خالقي" للشاعر المصري محمد إبراهيم نجا، التي تتضح فيها النفحة الروحانية، إضافة إلى "ويح قلبي". ألحان البندك كثيرة وشروحها من ناحية فنية ربّما يُفرد لها موضوع قائم بذاته، بحجم إنتاجه الفني لما تضمنته ألحانه من تحويلات نغمية واختيار حريص للمقامات الموسيقية.



حوار فقير لمجلّة الذخيرة عام 1964
بعدما ذاع صيت البندك، أجرت مجلّة "الذخيرة" الأسبوعية، التي صدرت عام 1946، حوارًا مقتضبًا مع رياض البندك، من ثلاثة أسئلة فقط، وهو الحوار الوحيد الذي نعثر عليه في الصحافة الفلسطينية منذ مطلع القرن العشرين مع هذا الموسيقار.. كان يرى الفن فريضة، كأنه في قدسيته الصراط المستقيم الذي لا يحيد عنه، حيث كان يرغب في أن تلامس الموسيقى الشرقية مشارق الأرض ومغاربها، وأن تتشنف لها آذان البعيد والقريب.

رياض البندك (فيسبوك)



أراد البندك أن يقول إننا نستسيغ الموسيقى الغربية، فما بال أنغام الشرق، لكنه لم ينكر الكسل الذي اعترى قسمًا من الموسيقيين المحافظين، الذين كانوا يرفضون تمامًا أي تجديد أو زيادة على الموسيقى العربية. كان يرى في ذلك تفكيرًا رجعيًا مؤلمًا. هذا الإحساس بالتغيير كان في نفس الشيخ سيد درويش، لكن الأخير رحل وبقي دور "أنا هويت وانتهيت" من أجمل ما لا يمكن العبث به؛ حيث يرقد مقام الكرد الذي يتجلى في أغنية "نسم علينا الهوى" للسيدة فيروز، وكذلك "حيرت قلبي معاك"، إحدى روائع أم كلثوم. في حديثة، يعترف البندك بما أصاب الأغنية الفنية في فلسطين من مقتل بسبب الظروف السياسية، إضافة إلى غياب المعاهد الموسيقية، لكن الأمل كان يتملكه وقد أمسكه بيديه وعزف به على عوده كي يبقي لنا أعذب الألحان المحفوظ منها والضائع.

المساهمون