روضة بشارة... حيفا في مقام الوداع

02 مارس 2014
روضة بشارة عطاالله، افتتاح "احتفالية فلسطين للأدب" 2013
+ الخط -
لم يشأ عام 2013 أن يفارقنا بهدوء، حيث شهدت أيامه الأخيرة الحدث الأليم الذي خسرت فيه الحركة الوطنية والثقافية الفلسطينية علمًا من أعلامها الكبار.. فرحلت د. روضة بشارة عطا الله بعد صراع مع المرض، وبعد أن زرعت ارثها الوطني والثقافي والسياسي بذورًا كحبوب سنبلة تموت فتملأ الوادي سنابل.

لعل أيامها الأخيرة في صراعها مع المرض تختصر لنا المشهد، فكل من زارها رأى بعينيه تحديها للمرض الخبيث حتى اللحظات الأخيرة، بالرغم من كل كلام الأطباء، تعد الجميع أنها ستلتقي بهم قريبا، تسأل عن آخر التطورات، تتابع عمل "جمعية الثقافة العربية" التي أعطتها كل وقتها ايمانا منها بإنسان عربي فلسطيني معتز بهويته، وبمشروع ثقافي وسياسي وطني مبني على الوعي للحاضر والماضي والمستقبل.

لم يتفاجأ أحبتها عندما أخبرهم الأطباء في المستشفى، أنه ورغم حالتها الصحية الصعبة جدا، إلا أن قلبها قوي، وأنها كسرت كل المعايير في الصمود ومقاومة المرض كحالة استثنائية، فـ"روضة" لمن عرفها، كانت كل حياتها هكذا، تكسر المعايير المسبقة وتضع سقفا أعلى بكثير مما هو سائد.

عندما بحثنا على صور لها للإستعمال في الجنازة والتأبين بين مئات الفعاليات التي نظمتها جمعية الثقافة العربية، نادرا ما وجدنا صورا لها او تصريحات خاصة، فمن يتابع نشاطها وإنتاجها الذي وصفه البعض بالمصنع، يدرك ايثارها العمل الجماعي على الفردي، ويستشعر الخسارة بعد الرحيل. فبرحيل "الدكتورة"، كما كنا نناديها، خسرنا انسانة كان كل يوم لديها حلم جديد ومبادرة جديدة، يهدف الى أن يكون مجتمعنا وفياً لنفسه بعيدا عن الأسرلة والتشويه، بالإضافة الى أنها كانت أماً حقيقية لنا جميعاً، وبنظرة خاطفة على وجوه المشيّعين في الجنازة خصوصا الشباب، تدرك أن الخسارة أكبر من الاستيعاب.

شكلت د.روضة حالة ثقافية خاصة، لم نشهد لها مثيلاً من قبل؛ التزامها بالثقافة الوطنية التي تقوم على رؤية سياسية واضحة دون المتاجرة بالثقافة، ودون أي صلة بالمؤسسة الإسرائيلية؛ بل ثقافة تقوم على وعي لكيفية رؤية الإنسان لنفسه كجزء من جماعة، ثقافة تستند للموروث المادي والروحي والمعرفي للشعب والأمة مع الابداع المعاصر لمواجهة الواقع خصوصا في حالتنا كفلسطينيين في "اسرائيل".

لم تكتف بالعمل الثقافي يوما، بل أكدت على أهمية الحزب السياسي ومركزيته وضرورة وجود الأحزاب السياسية، ولم تُنظّر يوما مثل البعض من قيادات العمل الأهلي والمجتمع المدني بالتنازل عن العمل الحزبي، مع الإشارة إلى أنها كانت تعي العلاقة والتمايز والفصل بينهما، فهي تؤمن أن عملية التغيير السياسي بحاجة لحزب سياسي يعطي سقفاً ورؤية، وهي كانت جزءاً من هذا العمل السياسي من خلال نشاطها في حزب التجمع الوطني الديمقراطي منذ تأسيسه، فتبوأت عضوية المكتب السياسي، وكانت مسؤولة عن الحركة الطلابية في "التجمع" لسنوات، الأمر الذي يستدعي الكتابة عنه بشكل خاص للأثر العميق الذي تركته على صعيد العمل الطلابي، خصوصا الأيام الدراسية والتثقيفية للشباب وبقية البرامج الطلابية التي بادرت إليها ونفذتها.

العمل بالنسبة لها كان يعني 24 ساعة، هنالك دوما عمل، كانت تسعى دائما للعمل مع مجموعات مختلفة من فنانين ومعماريين ومعلمين وأمينات المكاتب وطلاب المدارس وطلاب الجامعات ومثقفين وأدباء وإعلاميين، وكل المشاريع التي عملت عليها كانت تنفذها بشكل مختلف عن أي جمعية اخرى وتعمل دائماً على مشاريع كبيرة؛ من زيارت لقرى مهجرة، دورات للقيادة الشابة، منح دراسية، أيام تواصل، دورات للمعماريين العرب، صالونات أدبية، مناهج التدريس، اللغة العربية، مسابقات أدبية، مهرجانات فنية وثقافية وطبعا القائمة تطول وتطول، فالحالة التي شكلتها د.روضة كانت بمثابة سند حقيقي للمثقف الوطني و حصن للثقافة الوطنية في الداخل الفلسطيني.

كانت عملية إعادة تشكيل الوعي أمراً مركزياً بالنسبة لها، وكانت تدرك أنها عملية ليست سهلة تتطلب تغيير الواقع، وفي حالتنا رأت العلاقة بين الثقافي والسياسي على انها الحفاظ على الهوية العربية والهوية الفلسطينية، أي عمليا الحفاظ على الوجود الجماعي الذي أساسه الحداثة تحديدا والهوية والثقافة العربية والهوية الوطنية الفلسطينية، وبهذه المعادلة تركت لنا الدكتورة روضة جيلا من الشباب السائر على هذه الدرب، لأنها شكلت حالة أكبر من حالة جمعية بل حالة حركة جماهيرية وطنية سنتفقدها جميعًا.


* السبت 25 كانون الثاني/ يناير، السادسة والنصف مساء، قاعة المركز الفرنسي- كريغر حيفا.

المساهمون