روسيا ومسؤولية تقسيم سورية

03 مارس 2018
+ الخط -
يندهش المواطن السوري، ومن يقف إلى صفه، من هذا التوحش الروسي/ السوري غير المسبوق في غوطة دمشق الشرقية، إضافة إلى المماطلة الديبلوماسية الروسية، وعرقلتها قرار مجلس الأمن ذا المحتوى الإنساني أولاً، وكذلك محاولتها كسب الوقت، وابتزازها المجتمع الدولي لمكاسب سياسية، إذ لم يصدر القرار، في النهاية، إلا بعد إدخال عبارات مطاطية عليه، وما كان له أن يخرج لولا ضجيج حملات الإدانة الدولية الواسعة، وربما التهديد المحتمل من دول أكثر قدرة.. ومع ذلك، استمر الطرفان: روسيا والنظام بقصف المدنيين، وقتل الأطفال. ولعلَّ السوريين يتساءلون، أيضاً، عن الأسباب العميقة لتلك الحملات العسكرية الروسية الهمجية.

بدايةً، لا بد من الإقرار، وخصوصاً ممن لا تزال تغطي بصرهم وبصيرتهم غشاوة ما، بأن روسيا اليوم، وبعد المتغيرات الدولية الحاصلة في العالم مع القرن الحادي والعشرين، قد غدت، وبوضوحٍ لا ينقصه أيُّ دليل، الوَجْهَ الآخرَ لأميركا فيما يتعلق بالعدوانية تجاه الشعوب الأخرى، وفي البحث عن مناطق نفوذ جديدة، وأسواقٍ لبيع الأسلحة الفتاكة، وأخذ "خوَّات" من حكومات الشعوب القادرة على الدفع، إضافة إلى البحث عمَّا يمكِّن المافيات المالية المتكوِّنة خلال العقدين الماضيين، من عقود استثمار، وشراكاتٍ تنافس سواها من شراكات دول العالم العظمى.. لا بل إن الوحشية الروسية جعلت أميركا تُزايِد على روسيا اليوم بمواقفها الإنسانية، انطلاقاً مما يرتكب في سورية من مجازر.
أما ما يفسر صمت العالم اليوم تجاه سلوك روسيا، وعدم اتخاذه موقفاً عملياً، فليس "الفيتو"
الروسي الذي أطال أمد المأساة السورية، فجعل منها حرباً دولية يتحمل السوريون وحدهم أوزارها، بل لأن روسيا، وعلى الرغم من سعيها إلى كسب حصص أكبر لها ولشريكيها، النظام وإيران، فإنها لا تتجاهل نصيب الآخرين.. فها هي ذي الجيوش الأجنبية ومرتزقتها تتناهش الأراضي السورية من أطرافها كافة، بينما لا ترى روسيا غير مدنيي غوطة دمشق، لتهدمها فوق رؤوس أهلها. بسبب مائتي مسلح من جبهة النصرة يمكن إخراجهم بألف وسيلة غير قتل الناس.
ما يراد قوله هنا إن روسيا والنظام وحدهما مسؤولان، لا عن القتل فحسب، بل عما يجري على الأرض من أعمالٍ تقود إلى تقسيم سورية، فالقادة الروس الذين يعرفون الوضع السوري أكثر من غيرهم لم يتعاطوا مع المبادرات السلمية، سواء ما جاءت بها جامعة الدول العربية أو الأمم المتحدة، بل أخذوا بالمماطلة والتذرع بأسباب واهيةٍ لا تصمد أمام الواقع الذي كان، ودافعهم الوحيد لفت الانتباه إليهم قوة عظمى جديدة لا علاقة لها بالقيم الإنسانية، بل بالمصالح المتعارف عليها بين الدول.. إضافة إلى أنها تريد الانتقام لنفسها من أميركا والغرب عموماً الذين غدروا بها، حين تعاطوا مع الكعكة الليبية (أعلنت ذلك صراحة). وتدرك روسيا جيداً أنَّها لا تستطيع التفرد بسورية وحدها، وأن الفيتو المعطل في مجلس الأمن لا ينفع بمفرده. ولذلك تستطيع هي، وبما تملكه من قوة ونفوذ في سورية، ومن فهم لطبيعة نظامها السياسي، أن تكون الشريك الأقوى للأطراف الأخرى، وخصوصاً للولايات المتحدة، وهي إذ تدرك خبث السياسة ومكرها، وضلوعها في ذلك عميق، تراها لم تفسح في المجال لوجود المتطرفين الإسلاميين في سورية فحسب، بل ساهمت بوجودهم الأممي، وعملت، على نحو غير مباشر، وبما لا ترغب به، ولا تشتهيه. وأعني بذلك إدخال الولايات المتحدة الأميركية شريكاً لا تعوزه خبرة الدخول ومبرّراته.. أميركا التي لم يكن لها موطئ قدم واحدة على الأرض السورية طوال عقود الصراع على سورية، باستثناء شركات تنقيب عن النفط، وعبر عقود رسمية جاءت بمبادرة من حافظ الأسد.. ومن هنا، يدرك المتابع أنَّ إدارة أميركا الظهر للمسألة السورية منذ البداية، مكتفية بمكنتها الإعلامية، وتصريحات سياسييها. ولعلها لم تعمل جدياً إلا في حدود مصلحة إسرائيل وادعاء أمنها، و(جريمة الكيميائي الأولى خير مثال). وحتى حين تدخلت روسيا عسكرياً في سبتمبر/ أيلول من العام 2015 لم تحرّك ساكناً.. بل لعلّهاَ رغبت في دفعها إلى المستنقع الذي هو الأقرب إلى مستنقع أفغانستان، مع عدم إغماض العين عن حصتها المرتقبة، ولعلَّ الدولتين متفقتان، سراً، على الرغم من اختلاف النيات.
اليوم، وبعد أن اتضحت الصورة، يتحدّث الإعلام السوري عن تقسيم دول المنطقة، بدءاً من تقسيم فلسطين ومروراً بالعراق، وليس انتهاء بالسودان.. ويلقي أسباب ذلك على الاستعمار من دون أي إشارةٍ إلى الأسباب العميقة المتعلقة بحكام تلك الدول، ولا إلى ما قد حدث ويحدث في سورية.
وإذا كان لفلسطين وضع خاص، فإن أمْرَيْ العراق والسودان، وربما القادم إلى سورية يختلف، إذ إنَّ مردّ ذلك يعود، بالدرجة الأولى، إلى الحكام المستبدين الذين صادروا الحريات السياسية، وعملوا على إشاعة الفساد ونهب المال العام، بأيدي شركائهم من المقربين، وكانوا أبعد ما
يكون عن بناء دولٍ يتساوى فيها المواطنون من دون أي تمييز.
أذكر أنني كتبت في أكتوبر/ تشرين الأول 2014 مقالة عنوانها "دمشق تكفيني"، في إشارة إلى التقسيم الذي لاحت معالمه، وجاء فيها: "من يدقق فيما آلت إليه الأمور يدرك أن لسان حال النظام هو أن لا عودة عن الحل الأمني بالمطلق، وإن أضحت البلد يباباً، ولا رجعة عن التمسك بكرسي الحكم، وإن كان على كومة أحجار، وبقايا مدن. وحتى إذا غدا الوطن أوطاناً، وهو هكذا في الواقع العملي الآن، فماذا يعني أن تقطّع أوصال المدن، أو فيما بينها، على نحو قطعي، وأن تسافر، مثلاً، من حلب النظام إلى حلب المحرّرة (التسميات المستخدمة آنئذ) في مدة تتجاوز عشر الساعات، وأن تدفع عشرة أضعاف الأجرة الفعلية؟! إن ذلك يشير إلى أمر واحد هو: شبح التقسيم، أو شكل من أشكاله الذي يخيم على أجواء البلاد، وماذا يعني هذا القصف الجهنمي لمنطقة الوعر حيث يقيم ما تبقى من سكان حمص الذين دُمرت أحياؤهم وهُجِّروا قسراً؟ ثم بماذا نفسر ما يجري حول دمشق تحديداً من حرب ضروس لا تبقي ولا تذر، يشنها الجيش على قاعدة ما يعرف بسياسة الأرض المحروقة، غير المضي نحو قرارٍ كهذا؟ وبماذا نفسر، كذلك، ما يحدث في المحافظتين الساحليتين من تحصين وترحيل لمنشآت صناعية حلبية وحمصية ودمشقية أيضاً إليهما؟"
يتباكى النظام اليوم على وحدة البلاد التي أوصلها برعونته، وبالأجنبي الطامع الذي استعان به، إلى حافة التقسيم، وبعد أن تحدث رأسه عن مصطلح "التجانس"، (تجانس مواطنيه) الذي لا يلتقي مع مفهوم المواطنة، ولا يؤكد إلا نفي المواطن الآخر الذي لا يقبل أن يكون عبداً في وطنٍ تحوَّل إلى مزرعة خاصة.
1D1ED1EA-2F95-436E-9B0D-9EA13686FACD
محمود الوهب

كاتب وصحفي وقاص سوري، له عدد من المؤلفات والمجموعات القصصية