لطالما دار الحديث في الأوساط الشعبية الروسية، عن أن الكرملين ينتظر الفرصة التاريخية المواتية لتغيير نهج البلاد، والتحرّر من القيود التي كبّلت روسيا في عهد الرئيس الراحل، بوريس يلتسين، و"العودة إلى روحية الاتحاد السوفييتي"، بعد حوالي العقدين على الايحاء بـ"الفصل" بين السوفييت والروس. وازدادت وتيرة تصريحات مسؤولي الكرملين، حول "سوفييتية" روسيا، من الرئيس فلاديمير بوتين، إلى عسكرييه.
وعدا اجتياح جورجيا في العام 2008، والتورّط في النزاع الأوكراني بدءاً من فبراير/شباط 2014، وضمّ شبه جزيرة القرم إلى الأراضي الروسية، عمد الروس إلى محاولة تحصين قوتهم الاقتصادية عبر الاستناد إلى قطاع الطاقة بشكل أساسي. وقد سبق أن ترسّخت "تبعية" البلاد الاقتصادية في أعوام ما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي (1917 ـ 1991)، وبدء عهد روسيا الجديدة مع رئيسها الراحل بوريس يلتسين. وكان تراجع سوق السلاح الشرعي وتصنيعه في مقابل ازدهار السوق السوداء من الضربات المؤلمة لموسكو، التي راقبت زحف قوات حلف شمال الأطلسي إلى دول "سوفييتية" سابقة مجاورة، بريبة. الأمر الذي لم يكن من المسموح "التفكير به" في أيام الحرب الباردة.
وقبل إقرار العقوبات الغربية على روسيا، والانخفاض الكبير في أسعار الطاقة، كان قانون البنك المركزي، والنظام المصرفي الروسي عموماً، خاضعاً للقوانين الأميركية، خارج الحدود الروسية. كذلك آليات تسجيل الشركات الروسية أو الشركات المشتركة بين روسيا ودول أجنبية. وهو ما سمح في تهريب الرساميل والتهرّب من دفع ضرائب، تحتاجها الدولة بشدّة.
وسبق أن نقل موقع "غازيتا.رو" عن رئيس تحرير مجلة "روسيا في السياسة العالمية"، فيدور لوكيانوف، قوله، إن "قائمة العقوبات ستدفع بالأمور نحو الاشتباك في لحظة ما". وذلك يعني، بحسب لوكيانوف، أن "روسيا أمام لحظة مواجهة مباشرة وحقيقية لا مفر منها، وهي لا تنوي الاستسلام، لا شعباً ولا قيادة".
ويتابع: "انتهت الحقبة التي عملت فيها روسيا على تأكيد اختلافها عن الاتحاد السوفييتي، واختلافها النوعي عن خصومها". في إشارة إلى إعادة رسم خريطة سياسية مشابهة للاتحاد السوفييتي. وهو ما أدى إلى نشر الكرملين قائمة من 89 أوروبياً ممنوعين من دخول الأراضي الروسية، من بينهم شخصيات سياسية وأمنية، كردّ على العقوبات.
ومن المُرجّح تطوّر الأزمة مع الغرب في الفترة المقبلة، مع إعادة فتح ملف استضافة روسيا لكأس العالم لكرة القدم لعام 2018 -في محاولة لسحب التنظيم من موسكو- والتي تقودها بريطانيا إعلامياً وسياسياً والولايات المتحدة قضائياً، عقب تفجّر أزمة الاتحاد الدولي لكرة القدم "الفيفا" أخيراً، واستقالة رئيسه السويسري سيب بلاتر.
اقرأ أيضاً: روسيا تمنع شخصيات أوروبيّة من دخول أراضيها
إلا أن الروس بدأوا يفكرون بطريقة "سوفييت ما قبل البيروسترويكا والغلاسنوست"، لا بطريقة الرئيس السوفييتي الأخير، ميخائيل غورباتشيف، فقد نقل موقع "روسفيسنا.سو" عن مستشار الرئيس الروسي لشؤون التكامل الاقتصادي الإقليمي، سيرغي غلازييف، المكلّف تنسيق نشاطات الإدارات الفيدرالية التنفيذية الخاصة بتطوير التكامل الأوراسي، في إطار الاتحاد الجمركي والفضاء الاقتصادي المشترك، قوله إن "الحقبة الأكثر خطورة لروسيا، ستحلّ في بداية الثلاثينيات من القرن الـ21، حين ستتم إعادة تسليح البلدان المتطورة، والصين تكنولوجيّاً، بينما ستتجاوز الولايات المتحدة وبلدان الغرب الأخرى ركود فترة 2008 ـ 2018، وتحقق قفزة تكنولوجية جديدة".
ويضيف غلازييف: "ستحصل تغييرات عدة في هذه الفترة في العلاقات الدولية، وسينشب صراع بين زعامات التطور التقني الاقتصادي السابقة والجديدة، للسيطرة على أسواق العالم. وسيقود هذا الصراع على الأسواق إلى زيادة التوتر في العلاقات الدولية، وإلى نزاعات سياسية وعسكرية، شبيهة بالتي أدت إلى حروب عالمية". ويتابع "نشهد بداية تلك الحقبة المرتقبة في الوقت الراهن، وستستمر إلى فترة 2020 ـ 2022، وحينها سيتم تشكيل النمط التكنولوجي الجديد، الذي سيدخل الاقتصاد العالمي مرحلة جديدة".
وتبدو تلك "النبوءات" أقرب إلى "نوايا خططية" من مجرّد تحليل مستقبلي، فالروس انتقلوا فعلياً، من مجرّد التفرّج والمراقبة والدفاع عن النفس، إلى مرحلة الهجوم، أكان عبر عقد اتفاقيات نفطية مع دول تركيا، أو جنوبي أوروبا، أو الصين، أو الهند.
أما في شرق أوكرانيا مثلاً، فلم يعد الكرملين يعير أهمية لكل من يتهمه بالتدخّل المباشر لصالح الانفصاليين في منطقتي دونيتسك ولوغنسك، كما لن يسكت عن الغاء اتفاقيات تسهيل تنقّل الجنود الروس من "جمهورية ترانسنستريا" المعلنة من جانب واحد في الأراضي المولدافية، إلى روسيا عبر الأراضي الأوكرانية. من الطبيعي أن يُظهر الكرملين اهتمامه بجنوده الألفين هناك والأقلية الروسية أيضاً، على أن الحلّ لن يكون تراجعياً، وفقاً لتصريحات سابقة لنائب رئيس الوزراء الروسي، ديمتري روغوزين، الذي قال "مازحاً"، إن "الجيش الروسي لا يحتاج إلى تأشيرات لدخول القارة الأوروبية". وما عزز جدية التهديدات الروسية، هو قول الرئيس الأوكراني بيترو بوروشينكو إن "بلاده باتت على مشارف غزو روسي، بفعل تصاعد حدة الصراع في شرقي أوكرانيا".
"مزحة" روغوزين، انطلقت أساساً من استعراض "يوم النصر" الكبير، الذي نظّمته موسكو في 9 مايو/أيار الماضي. كان العرض "مهيباً" عسكرياً وسياسياً في حينه، لكن روسيا قدّمت فيه نموذجاً عن أسلحتها الجديدة، للتأكيد على أن مرحلة روسيا ـ بوريس يلتسين انتهت إلى لاعودة. لم يخلُ الاستعراض من إحراج لافت تسببّت به الدبابة الجديدة "أرماتا"، التي تعطّلت في التدريب الأخير قبل "يوم النصر". كما أظهرت موسكو أن اعتمادها السياسي، سيكون على حلفاء آسيويين بالدرجة الأولى، من الصين إلى جمهوريات وسط آسيا.
لكن الحرب الباردة مع الأميركيين، بعيدة حتى الآن، فزيارة وزير الخارجية الأميركي جون كيري، في 12 مايو/أيار الماضي إلى منتجع سوتشي الروسي، ولقاؤه بوتين ووزير خارجيته سيرغي لافروف، حيّد الأميركيين من الصراع الآتي بين الكرملين وأوروبا، من دون التنازل عن العقوبات على روسيا. وهو ما يعني ترك أوروبا أمام سوفييت عائد من جهة، وابتعاد الولايات المتحدة عن كل ما من شأنه أن يُساهم في توريطها في مأزق ميداني جديد.
اقرأ أيضاً: أوكرانيا تحاصر الروس وبارود سوفييتي بانتظار شرارة