البداية في الثالث من سبتمبر/أيلول الجاري، حين ذكرت وكالة "أسوشييتيد برس" أن الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، أوقف العمل في بناء حاملة المروحيات "ميسترال" لروسيا، الأولى من نمطها بالنسبة لموسكو، وقد انتظر الروس العوم بحواماتهم عليها، ونقل مشاة بحريتهم إلى حيث تقتضي مصالحهم القومية، لكن ذلك يبقى رهن الضغوط الأميركية إلى اليوم.
وسرعان ما عادت الإدارة الفرنسية إلى تلطيف الأمر، خشية إلزامها بتعويضات العقد المبرم مع روسيا وتصعيد روسي مقابل ذلك، فقالت إنها لا تتخلى كلياً عن العقد، وإن قرار توقيف العمل مؤقت، ويستمر فقط حتى نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، وإن فرنسا سترى إلى ذلك الحين المضاعفات المالية المترتبة على إيقاف العمل بالعقد (لتقرر بعدها التراجع أو المواجهة)، حسبما نقلت وكالة "فرانس برس" عن مصدر دبلوماسي فرنسي، فيما ذكرت وكالة "ريا نوفوستي" أن فسخ العقد يمكن أن يكلف فرنسا 1.3 مليار دولار.
كان من المقرر تزويد روسيا بحاملة المروحيات الأولى "فلاديفوستوك" في نوفمبر/تشرين الثاني المقبل، تليها الحاملة "سيفاستوبول" في العام المقبل (2015). وفي الوقت الراهن، توضع في أحواض سان نازير الفرنسية لبناء السفن، اللمسات الأخيرة على الحاملة "فلاديفوستوك" حيث يتدرب 400 بحار روسي للخدمة عليها، لكن فرنسا تتلكأ، وروسيا تنتظر.
ولا يستغرب الروس أن تكون سلطات الولايات المتحدة قد مارست الضغط على فرنسا، للتوقف عن بناء "ميسترال" لروسيا، إلا أنهم يستنكرون أن تفعل ذلك المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل.
فقد بثت قناة "روسيا اليوم" قول الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في بداية يوليو/تموز الماضي: "نحن على علم بالضغوط التي يمارسها شركاؤنا الأميركيون على فرنسا من أجل عدم تزويد روسيا بميسترال". ومع ذلك كانت باريس تؤكد كل مرة أنها ملتزمة بتنفيذ العقد، فلماذا تغير موقفها اليوم؟ وهل من مصلحتها الخضوع لضغوط حلفائها؟
في حال فسخ العقد، ستبقى لدى فرنسا سفينة مبنية وفق مواصفات ومتطلبات روسية وبمشاركة روسية، ومن المستبعد أن يكون بلد آخر بحاجة إليها، من دون تعديلات جوهرية. ذلك ما عبّر عنه نائب رئيس لجنة الصناعة الحربية في روسيا، أوليغ بوتشكاريوف، لوكالة "إنترفاكس"، وتساءل: "لمن ستبيع فرنسا هذه السفينة.. لحلفائها في الأطلسي؟ ولكن لديهم تجهيزات أخرى ومقاييس مختلفة". وأضاف أنه "في حال إيقاف العقد، سيلحق الضرر بفرنسا أكثر مما يلحق بنا، حتى أننا نشعر بالعطف على الشركة الفرنسية".
ولم يتوقف الرد الروسي عند هذا الحد، فقد أعلن وزير الصناعة الروسية، دينيس مانتوروف، عبر قناة "روسيا 24"، أن روسيا "تستطيع بناء حاملة مروحيات مثل ميسترال، فيما لو وضعت هذه المهمة أمامها، لأن صناعة ميسترال جرت بالتعاون مع روسيا، وتجهيزات السفينة ومنظومة إدارتها روسية". وأكد أن "امتناع فرنسا عن تنفيذ العقد لن يغير في العقيدة العسكرية الروسية".
وكانت مسابقة استدراج عروض بناء حاملات مروحيات للجيش الروسي التي جرت سنة 2010، كسبها العرض المشترك المقدم من "شركة بناء السفن الروسية المتحدة" وشركة "دي اس ان سي" الفرنسية، وتم حينها، كما ذكر موقع "فيدوموستي.رو" الاتفاق على أن يتم بناء أول حاملتين في فرنسا، ثم تبنى حاملتان أخريان في سان بطرسبورغ في روسيا.
كما ذكرت صحيفة "فزغلاد" الروسية أن قيمة عقد بناء حاملتين من نمط "ميسترال" بلغت 1.45 مليار دولار، وأن شركات ألمانية وإسبانية وكورية جنوبية شاركت في المناقصة إلى جانب الشركة الفرنسية التي كسبت مع نظيرتها الروسية العقد.
والأهم، أن الرئيس الفرنسي السابق، نيكولا ساكوزي، اعتبر حينها توقيع العقد مع روسيا بمثابة طي صفحة سوء الفهم الذي نجم في حينه عن تدخل روسيا في الحرب الأوسيتية ـ الجورجية عام 2008.
وفي السياق، رأى الرئيس السابق لهيئة الأركان العامة للقوات الروسية، فيكتور كرافتشينكو، أن بناء السفينة كان يتمتع بأهمية سياسية في حينه، إلا أنّ روسيا اليوم لم تعد بحاجة إلى سفينة بمثل تلك التجهيزات.
وهكذا، تضع المواجهة مع الغرب روسيا أمام تحدٍّ علمي تقني، يتمثل في صناعة حاملات سلاحها الجوي، وقوات مشاتها البحرية، علماً أن هذا السلاح، الذي تراجع كثيراً بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، لم يتم تطويره في سنوات محاولة استعادة القوة البوتينية على غرار تطوير سلاح الغواصات والصواريخ والطيران، ومستواه الحالي لا يتناسب مع طموحات روسيا إلى حضور سياسي عالمي منقول إلى مناطق بعيدة عن حدودها الجغرافية. فهل توسع القوة الروسية حدود سياستها، أم تشكل عبئاً عليها؟