رودان يبتكر حداثته.. في حوار مع رخام الماضي

03 مايو 2018
(من منحوتات البارثينون في المتحف البريطاني)
+ الخط -

افتتح "المتحف البريطاني"، في السابع والعشرين من نيسان/إبريل الماضي، معرضاً فريداً، ليس من حيث نوعية المعروضات أو قيمتها فحسب، بل ومن حيث دلالته على العلاقة بين واحدة من أكثر نزعات الحداثة الفنية إثارة وتراثِ ماضٍ غارق في القدم يبعد عن زمننا الراهن أكثر من ألفين وخمسمائة عام.

النزعة الحداثية المعنية في هذا المعرض، الذي سيستمر مفتوحاً أمام الزائرين حتى 29 من حزيران/يونيو القادم، هي نزعة النحات الفرنسي أوغست رودان (1840-1917) التي وُلدت بتأثير حواره مع تراث النحت "الكلاسيكي"، والإغريقي على وجه الخصوص، ذلك الذي اجتذبه وأثر فيه تأثيراً بالغاً خلال زيارته الأولى لـ"المتحف البريطاني" في عام 1881 وما تلاها من زيارات، ووجّهه نحو ابتكار أسلوب فن النحت الحديث منفرداً، وحرّره من النحت الأكاديمي السائد في زمنه، الزخرفي والمحدّد بموضوعاته وتقاليده.

في هذا المعرض، جاور المنظمون بين ما يقارب 80 عملاً من أعمال الفنان الفرنسي وبعض من مقتنياته، تراوحت بين منحوتات رخامية وبرونزية وجصّية، وخطاطات أولية على الورق، وبين مجموعة من تماثيل معبدين إغريقيين مقامين على تلة الأكروبولوس في أثينا، هما "البارثينون" و"أريخيثيون" وتماثيل بوابة "بروبيليا"، دخلا في حوزة "المتحف البريطاني" في العام 1816، بعد أن ابتاعتهما الحكومة البريطانية من اللورد إليجن المعروف، بكونه استولى عليهما بطرق احتيالية، ونقلهما بحراً إلى بريطانيا.

هذه التماثيل، ما تحطّم منها، وما ظل شاخصاً نصف سليم، تمثّل أرقى منتجات النحت الإغريقي في القرن الخامس قبل الميلاد، المنحوتة تحت إشراف النحات الشهير فيدياس (480 ق.م- 430 ق.م) وعدد من مساعديه.

ولكن العرض لا يُقصد منه أن يكون عرضاً لفن النحت الإغريقي القديم، بل أن يكون "عرضاً لهوس رودان بهذه التماثيل الإغريقية، وكيف تبدو حداثية ونابضة بالحياة وغريبة وشبيهة بصور حلمية حين ينظر إليها المرءُ عبر عينيه" على حد تعبير الكاتب البريطاني جوناثان جونز في تعليقه على هذا الحدث.

الهوس ليس توصيفاً دقيقاً لهذا الحوار الذي أنتج حداثة مهادها أو أرضيّتها تأمّل إبداعات الماضي الموصوفة بالكلاسيكية، ودراستها دراسة متأنية، بل يجب البحث عن توصيف أكثر دقة. وحسناً فعل المنظمون حين وضعوا عند المدخل نسخة جصية من منحوتة رودان المسماة "القبلة" وبجوارها منحوتة من "البارثينون" تمثل امرأتين تستلقي إحداهما في أحضان الأخرى، في إشارة واضحة إلى إحدى مواطن الإلهام التي كانت موضع نظر رودان.

لم يستنسخ الفنان الفرنسي المنحوتات الإغريقية أبداً، ولكنه تعامل معها كموضوع يستلهمه، فخرج بابتكار أسلوب فني واقعي وحسّي بأعمق معنى وتعبيري كان ذا تأثير بالغ على الأجيال اللاحقة. في ضوء هذا ربما نجد التوصيف الدقيق لما فعله هذا الحوار في اكتشاف رودان لأفكار وأُسس فنية عابرة للأزمنة والأمكنة، مشتركة بين فن الماضي والحاضر، وما يمكن أن يأتي به المستقبل.

من أبرز هذه الأفكار وأكثرها قوة في منحوتات "البارثينون"، ما يمكن أن نسميها العاطفة أو الرحمة بالتعبير الدارج. صحيح أن الفن الإغريقي مكرّسٌ للجسد حين ننظر إليه للوهلة الأولى، ولكن هذا لا يجعله بالضرورة فناً جنسياً، لأن الجسد يمكن أن يعبّر عن الألم في العضلات المتوترة وفي أوضاع معذبة. وهذا أحد الأسباب التي جعلت أحد النقاد يتحدّث عن الأصابع في منحوتة "مواطنو كاليه" المعبرة عن مأساة أهالي هذه المدينة بوصفها "أكثر روائع رودان الإغريقية تأثيراً" على رغم موضوعتها القروسطية.

المشترك الجامع الآخر بين هذا الفنان الحداثي ومبدعي منحوتات "البارثينون"، هو الرغبة العارمة بالحياة كما يقول جونز، مستشهداً بعبارة كارل ماركس (1818 - 1883) التي ماثل فيها بين حياة اليونان القديمة وبين طفولة البشرية السعيدة، في إشارة إلى المتعة والتفاؤل اللذين نشعر بهما حتى الآن في الرؤيا الإغريقية.

ويعزز هذه الدلالة المعروض من مجموعة مقتنيات رودان من فن قدماء الإغريق والرومان. لم يقتن قطعاً نقدية ولا جراراً، بل اقتنى تماثيل كلاسيكية مثل جذع من تمثال لأفروديت، وآخر لهرقل في شبابه. ومن الواضح أنه أحب هذه المقتنيات بأجسادها المحطمة، واستلهمها في نحت أشكال إنسانية معذبة غير مكتملة.

المفارقة هنا، أو ما يبدو مفارقة، هي كيف أن اكتشاف رودان لفن النحت الإغريقي القديم هو الذي جعله يطلق اتجاهاً ثورياً جديداً في الفن الحداثي المعاصر، أبرز ما فيه استلهام التعبير القوي المعبّر عنه في الجسد وحده، والجسد المحطّم كما وصل إليه، إلى درجة أنه أزال حتى الرؤوس والأطراف من تماثيله ليجعلها أقرب إلى موروثات الماضي، وبفعله هذا ابتدع نوعاً جديداً من أنواع الفن المعاصر. وما فعله معرض المتحف البريطاني هو أنه وضع بعضا من أشهر أعمال الفنان مثل "المفكّر" و"القبلة" و"بوابة الجحيم" على سبيل المثال، تحت ضوء جديد بعد مائة عام من رحيله.

لم يظهر هذا الضوء جدة تجربة فنية وجذورها فقط، بل وأظهر أن التجديد والابتكار لا يمكن التعبير عنهما بمصطلحات حرب الأجيال، أو الجديد يسحق القديم، بالضرورة، أو على الفنان الحداثي أن يرفض الماضي. وهذا ما أثبته المعرض بالمجاورة بين منحوتات معابد الأكروبولس (خمسة قرون قبل الميلاد) ومنحوتات تنتمي إلى القرن العشرين.

دلالات
المساهمون