تمضي أيامٌ قليلة على إعلانه رغبته في اعتزال التمثيل، قبل أن يعود عن قراره هذا، المتَّخَذ كمحاولة للتفرّغ للإخراج. السينمائيّ الأميركي، متنوّع الاهتمامات الثقافية والجمالية والسياسية، يريد لحظة صفاء مع ذاته، فيعثر عليها في إكمال سيرة مهنيّة تنبض بعناوين ومواقف واشتغالات، ما يجعله يتراجع عن قرار اعتزال التمثيل. يقول إن "العجوز والمسدس" (2018) لديفيد لووري (1980) سيكون آخر إطلالة تمثيلية له، لكنه يبوح لاحقًا بما يشي بندمٍ على إعلانه هذا. لذا، يكمن الأهمّ في حضوره التمثيلي أمام كاميرا لووري، في فيلمٍ عابقٍ بنوستالجيا مبطّنة لسنين مديدة من عمله التمثيلي، وبأداء يؤكّد، مجدّدًا، جاذبيته المنبثقة من علاقة وطيدة وجميلة بينه وبين الكاميرا السينمائية. نوستالجيا تستعيد، ببعض الصُور السينمائية، مقتطفات من سيرة السينمائيّ الأميركي المُشبَع بالحياة إلى درجة الشغف الواضح بالذهاب فيها إلى الأبعد من كلّ شيء، وتُعيد رسم ملامح شخصياتٍ عديدة له في أزمنة أميركية مختلفة، سينمائيًا وحياتيًا وسياسيًا واجتماعيًا.
روبرت ريدفورد، المحتفل بعيد ميلاده الـ82 في 18 أغسطس/ آب 2018، يؤدّي دور سارق مصارف أميركي يُدعى فوريست تاكر (1920 ـ 2004)، مُلهِم الصحافي الأميركي ديفيد غران (1967) لكتابة مقالة عنه بالعنوان نفسه (العجوز والمسدس)، منشورة في "نيويوركر" في 27 يناير/ كانون الثاني 2003. عجوز يسرق المصارف أكثر من 60 عامًا. يحتاط كثيرًا كي لا يُسجن، ومع هذا يُسجن، وهروبه من سجونٍ مختلفة مرّات عديدة لن تقلّ أهمية وإثارة للمخيّلة عن عمليات السرقة نفسها. المبالغ المسروقة في كلّ مرة قليلة.
السرقة مهنة أو هواية؟ لا الحكاية الأصلية تؤكّد أو تنفي إحداهما، ولا الفيلم أيضًا، المعروض خارج المسابقة الرسمية للدورة الثانية (20 ـ 28 سبتمبر/ أيلول 2018) لـ"مهرجان الجونة السينمائيّ". فالأهمّ كامنٌ في شخصية فوريست تاكر، وفي مغامراته وعالمه وانفعالاته، وفي قدرته الساحرة (التي يُزيدها روبرت ريدفورد بهاءً في أدائه) على العشق وحبّ الحياة وعيشها في جوانبها كلّها.
لن يخرج "العجوز والمسدس" لديفيد لووري عن البناء العاديّ للحبكة ومساراتها. لن يكون باهرًا أو مغايرًا لمألوف الحكايات التي تُشبه تلك الحكاية: لص وشرطة ومطاردات، وما يتخلّل هذا كلّه من تفاصيل جانبية تكشف شيئًا من إيجابيات الشخصية الأساسية. لكن المُثير لمتعة المُشاهدة يتوزّع على مسائل عديدة: البناء العاديّ نفسه مصنوع بشفافية وهدوء يتناسبان وبساطة حكاية فوريست تاكر ومغامراته، فيغيب كلّ ما يُمكن أن يحول دون التنبّه إلى خفّة دمه وأناقته في الارتباط العاطفي وبساطة أساليبه في السرقة (وهي أحيانًا تدفع إلى الضحك لسخريتها)؛ الأداء الجميل لروبرت ريدفورد في الجوانب كلّها التي تصنع شخصية تاكر نفسه؛ سلاسة السرد (سيناريو لووري) والتوليف (ليزا زينو شورغن) والتصوير (جو أندرسن) وغيرها، المُوظَّفة في التقاط حسّ المغامرة بكاملها، بما يحرّض على التورّط الفعلي في مسارات السرد وعوامله ومناخه الإنساني وانفعالاته.
لن يؤدّي التمعّن في "العجوز والمسدس" إلى اكتشاف جديدٍ يُذهل، أو إلى مُغايرٍ يؤثِّر. فالذهول والتأثّر متأتيان من رفاهية الانصراف المطلق إلى العالم الذي يصنعه ديفيد لووري بمعيّة روبرت ريدفورد: إخراجٌ يمنح متعة التبصّر في الكيان البشري لفوريست تاكر وما يُظهره سلوكه من جوانب وانفعالات ورؤى؛ وتمثيلٌ يبدو عاديًّا لشدّة حِرفيته وجمالية الحِرفية تلك، لكنه ينكشف كإضافةٍ نوعيّة على كيفية صنع سينما شفّافة تمزج الرومانسية بالمغامرة والسرقة، وتخلط بين التحقيق البوليسي والسخرية المبطّنة والحذرة في ممارسة فعلٍ جُرميّ.
الموظّفون المعرّضون لسرقات فوريست تاكر يُجمعون على أناقته وخفّة دمّه وبساطته وهدوئه وكلامه المعسول، واهتمامه بهم للحظات هي نفسها مدّة تنفيذ السرقة. هذه صفات يُمكن تخيّلها عن شخصية غير معروفة كثيرًا. لكنها صفات تتألّق بجمالياتها مع أداء روبرت ريدفورد أثناء سرقاته، وخلال ارتباطه بالعجوز "جوهرة" (Jewel)، التي تجد في سيسي سبايسك (1949) أجمل تقديمٍ سينمائيّ لها. معًا (جوهرة وتاكر) سيُكملان صورة رومانسية عن معنى العيش على الحدود الأخيرة للحياة، وعن مغزى ابتكار الأجمل أيضًا.
في "العجوز والمسدس"، يبدو روبرت ريدفورد كأنه يقول بصوتٍ، منخفض أو عالٍ: "لن يكون هناك أجمل من جعل الكاميرا تتدرّب، أكثر فأكثر، على كيفية التقاط سحر الجاذبيّة فيّ، وسرّها".