روايتي المستعصية: تصفيق يدٍ واحدة

13 ابريل 2015
خالد حافظ / مصر
+ الخط -

يقال إنّ يداً واحدة لا تصفّق. قول بديهي، لكنه لا يبقى كذلك في الحالة الإبداعية.

ليس قولاً عن التعاون كما علّمونا صغاراً، ضمن منظومة تربوية مجتهدة في قتل الخيال وإهمال الخصوصيات الفردية، بل هو عن تناغم التلاقي، الاستجابة للإشارات (الواضحة أو الخفيّة) في إيقاعٍ يملك منطقه الخاص وغير العلمي، يداً نحو الأخرى، بحيث يُنتِج اللقاءُ صوتاً، هو هنا رمزٌ للمُنجز الفنّي الإبداعي.

فإن كنتَ (أو كنتِ) من هواة "التصفيق" (أقصد به الفعل الإبداعي) ولا تملك سوى يدٍ واحدة، لأنّ الثانية تُمسك عكازاً يمنعك من السقوط، ويهديك بين الحفر الكثيرة المزروعة في طريقك، وتعوّض وهن قدميك الذي ورثتَه، سواء لخلل في كود جينات جنسك أو عرقك... أو لخلل (أفضّل وصفه بالجغرافي) جعلك من بين الأقلّ حظّاً في العالم في تحقيق ذاتك.

إن كنت بيد واحدة، لن تستطيع أن تصفّق، ولكن قد يمكنك الكتابة. ستكون العملية أبطأ، وأكثر عسراً... قلائل هم الذين يكملون السير ويصلون.

كنتُ واحدة منهم، ولكن في الطريق، تحوّلت تجربة الكتابة لأجل الشفاء إلى تحدّ جديد، إذ تواجَهت مع مأزقها الخاص، خاضَت معركة هويتها، من خلالي وفوق مسرح حياتي الشخصية لا الافتراضية أو المتخيّلة، صارت إحدى أزماتي، وكان عليّ أن أختار بين تركها والعودة بأقلّ خسائر ممكنة، أو المتابعة والمقامرة بالكثير مما انتزعتُه عنوة وبجهد مهول لنفسي.

يد واحدة لا تصفّق، لكنها قد تكتب عن التصفيق. الكتابة عما ينقصنا ليست تعويضاً، من يقول هذا شاعري متوهّم أو مدّع، وليست تحدّياً له، بل اعترافاً صريحاً: نعم ينقصني شيء ولكني لن آخذه مقابل خسارة موازية، سأتحدّث عنه وأكتب عنه لأثبت أنني لا أكتمل إلا بما ينقصني. فهو يجعل أشياء أخرى تفيض عنّي وتميّزني وتجعلني ما أنا عليه. لولا هذا النقص لما عثرَت الكتابةُ عليّ أثناء فراري بحثاً عن نفسي.

هذه المواجهة لا تعوّض ما ينقصنا، لا تضمّد جرحاً، ولا تمحو ندبة، ولكنها تشغلنا في أمر صعب ومعقّد (هو الفعل الإبداعي، الصراع بين الكاتب ونصّه بما فيه من تحدّ وحبّ، تمرّد كل منهما على الآخر، التنازع بين الشخصيات، بحثها عن أصواتها، معركة قدرتها على الإقناع...) الانشغال في هذا العمل الشيّق والشاق يترافق مع يقين بأنّ حالنا ستكون أفضل حين ننجح فيه وننتهي منه. والحقّ أنّ ما يتبيّن لاحقاً أن ذاك اليقين، "الحسّي" بدوره، كان مكسبنا الوحيد.

صحيح أنّ الكتابة الأدبية لعبة فنّية، ولكنّها ليست آمنة أو مرحة، بل هي لعبة خطرة ومؤذية، لأنها ترتكز إلى الخيال وتنبع من التمرّد، فكلّ كاتب هو متمرّد على شيء ما وربما كلّ شيء. يقود التمرّدُ إلى تأجيج الخيال واستغلال مساحاته الخصبة لأجل خلق واقع آخر مختلف وحياة بديلة، تكمن خطورتها هنا، فنحن نعرف أو سمعنا عن كتّاب كثيرين، بعد اكتمال أعمالهم الروائية، تعسّر عليهم الخروج من فلكها، بل هي زادت الهوّة بينهم وبين واقعهم. فهم حين يجتهدون لإقناع القارئ بعالم روايتهم المختلق ذاك، يقعون في شراك هذه القناعة، التي تتحوّل عندهم إلى إيمان. سمعنا عن غرقهم في الكآبة ومسعاهم للانتحار بل وانتحار كثيرين منهم وجنون آخرين...

منذ عام 2002، حين نشرت مجلة الآداب أول قصة قصيرة للطالبة الهاوية التي كنتها، مروراً بمجموعتين قصصيتين وخمسة كتب للأطفال ومسلسلات وصولاً إلى رواية "برتقال مر" عن "دا ر الآداب"، استغرق الأمر 13 عاماً لتكتشف المراهقةُ التي صارت بعيدة عني الآن، أنّ ما ظنّته خلاصاً ليس كذلك، وما يقال عن أنّ الأدب يقي من التعاسة ليس دقيقاً، العمل الإبداعي فعل مؤلم نقوم به بشغف، إثم نقترفه بكلّ رضا... وهو أيضاً "عبودية مختارة بحرية" كما يقول يوسا.

إن كنتُ قد انشغلت باكراً في السؤال عن ماهية الكتابة وهدفها، لماذا أكتب وإن كنت أكتب ما يفيض عني أم ما ينقصني، لأجل التواصل مع العالم أم الانعزال عنه... فقد توصّلت لاحقاً إلى أنّ الكتابة هي السؤال والإجابة، فنحن نكتب لأجل الكتابة نفسها ولأجل الكاتب فينا أولاً، نكتب لأنّ الكاتب الذي نحن عليه يريد أن يقوم بما اختاره لنفسه، يريد أن يسحق كل الخيارات المختلفة عن خيار الكتابة والتي تعترض طريقه، إن جزءاً كبيراً من الكتابة هو إذلال الصعوبات أمامها، وإبعاد الرغبات الأخرى أو الإغراءات من العائلة إلى المال إلى النفوذ... من قد ينسى مشهد صعود ماركيز الشاب في القطار مودّعاً أمّه وصائحاً: قولي لأبي إن الشيء الوحيد الذي أريده في العالم هو أن أصبح كاتباً.

ما كان لي أن أصيح بهذه الجملة، في مجتمع يصدّر الوظيفة العائلية على سواها للمرأة، كذلك صفة الأمومة، حيث غير مسموح أن تترك الأمّ أطفالها في عهدة الأب بينما هي في غرفة مغلقة تعمل على رواية. حين يكون الأب (أو الابن وليس الابنة) مثلاً هو الموهوب، يكرّس كل من حوله حياته لأجل إنتاجه.. العكس ليس صحيحاً.

التحدّي الأكبر الذي واجهني حين شرعت في كتابة روايتي قبل سبع سنوات هو أنني بدوت عاجزة عن تحقيق شرط الكتابة الجوهري: التفرّغ لها وتكريس حياتي لأجلها، إذ كنت قد اخترت في الوقت نفسه أن أكون أمّاً، مهووسة بأمومتها تماماً كشغفها بالكتابة. وقد تعاظم التحدّي حين لم أجد في محيطي من يتفهّم أن يكون الشغفان متعادلين.

انقطعتُ شهوراً عن الكتابة، كان عليّ العودة بعدها من الصفر، وانقطعت سنة كاملة، استوجبت العودة من تحت الصفر!

زاد من صعوبة مهمّتي: خطوط السرد المتقاطعة وتلك المتوازية في الرواية، تعقيد الحبكة، استلهام اللعبة السينمائية الدرامية، وأيضاً استعارة تقنية "الكريشندو" الموسيقية، والإخلاص للعبة "المعلومة الخفية" التي قدّمتها في أكثر من طريقة ومكان، من إخفاء اسم البطلة إلا تلميحاً، إلى تأخير معلومة جوهرية، إلى إخفاء حدث جوهري، مهّد له فصلا الرواية الأوّلان.

ختاماً، وتلاقياً مع عنوان هذا الملتقى، "جماليات الشكل الروائي"، أجرؤ على القول بأنّ الشكل الروائي هو أحياناً كلّ الرواية. فالعمل كلّه هنا، كيف تكتب روايتك، كيف تبنيها وتؤثّثها قبل أن يطرق القارئ الباب ويسكنها ثم تسكنه، إن حصل نصيب.

والحقّ أنّ الأفكار تكون دائماً موجودة، أؤمن في حالتي أنّ بعضها رافقني من حياة أخرى، أي أنّه سبقني، وأنني عدت من حياة ما وأحضرت معي حكايات سأعيشها لاحقاً، وشخصيات لم تولد بعد، وقد أكون منحت فرصة حيوات أخرى لأجل إيجاد الشكل الروائي النهائي الذي ظهرت فيه الرواية، والذي أصبح الآن ملكاً لمن يقرأ.


* شهادة قدّمتها الكاتبة مؤخراً في "ملتقى القاهرة الدولي للرواية العربية" 

دلالات
المساهمون