"الزيارة"، الصادرة أخيراً عن دار الآداب، هي الرواية الأولى للكاتبة البحرينية الشابة رنوة العمصي. فبعد مجموعتها الشعرية "أشياء تصلح لقضية"، أنجزت هذا العمل في إطار "محترف نجوى بركات".
طفلة في الثامنة من عمرها تروي تفاصيل زيارة جدها، الذي تراه للمرة الأولى، إلى بيتهم في أحد أحياء القاهرة. جدٌّ يزور ابنه، آتياً من غزة، بعد رحيل الأخير عن فلسطين إلى مصر للعمل، وتزوّجه واستقراره في القاهرة لخمسة عشر عاماً من دون أن يزور أهله مرة واحدة.
تسرد الطفلة الاستعدادات التي تسبق وصول الجد، من تزيين الحي وتحضير الوليمة وتوافد الضيوف. نرى كل ذلك من خلال عينيها اللتين ترصدان كل تفصيل يحدث أمامها لتنقله لنا ببراءة، أو بادعائها البراءة. تصف لنا كل الزوّار من أخوال وخالات وأقرباء بعيدين، وأيضاً تحكي عن الجيران، طارحةً تساؤلاتها حول بعض تصرفاتهم التي لا تتمكن من إيجاد تفسير لها، لكنها تقبل بها كجزء من يومياتها، بحكم تكرارها واعتيادها عليها.
نتعرّف إلى عائلة الفتاة على مرّ الصفحات. فالطفلة والدها فلسطيني وأمها مصرية. الأم ابنة تاجر مُحدث نعمة، عمل صبياً عند تاجر جملة يهودي، لكن حين غادر الأخير مصر عام 1956، هرّب ما أمكنه من أمواله وترك محلّه لصبيه. وبحكم معرفة الصبي بيهود المنطقة الذين عمل بينهم طويلاً، استغل حاجة فقرائهم الذين ينوون الرحيل واشترى بيوتهم بأسعار زهيدة، مبرراً أمام الناس سلوكه بأنها صارت لمصري ومسلم.
تُبرز ملاحظات الابنة جانباً طبقياً عند والدتها، ابنة التاجر، التي تمتنع عن شراء حاجياتها من البقالية المحاذية لبيتهم "لأن فيها صراصير"، كما تدّعي أمام ابنتها، لكن لا يخفى أن المحل صغير وصاحبه من "النوبة"؛ كما تعلّق على الجد الذي يرفض أن ينام على السرير ويطلب أن يُفرش له على الأرض، بهمسها في أذن زوجها: "زي المساجين". هي التي لم تتوقف عن التلميح مراراً إلى أصله الفلاحي.
الأب جاء إلى مصر واستطاع أن يحافظ على ثروة والد زوجته، ويؤسس بيتاً وعائلة. لكنه ظلّ دائماً الغريب بينهم. وهو ما قاله يوماً لزوجته: "أنت مصرية، وبنتك مصرية، وأنا دوماً سأبقى كما أنا، أمام أهلك والشارع وحتى في عينك، غريب!".
الجد يأتي لزيارتهم للمرة الأولى، وهذا ما يثير تساؤلات كثيرة عند أمها حول غرض هذه الزيارة. انتظر الجد طويلاً عودة ابنه. ماتت الجدة ولم يعد الابن، وأحد أسباب ذلك هو رفض زوجة الابن الذهاب إلى هناك، وترفّعها عن عبور المعابر والأنفاق.
تبدو الرواية للوهلة الأولى كحكاية عائلية، لكن العمصي تطرح أسئلة خاطفة دون أن تجيب على أي منها، وترصد سلوكيات عابرة تعكس دوافع وتراكمات طبقية وهويّاتية وماضوية.
كما تعرض لنا شرائح مصرية متنوعة، من برجوازيين وتجار وفلاحين، كاشفةً عن مواقف مختلفة تجاه الهوية والقضية الفلسطينية؛ فالجد ما زال يحتفظ بأوراق ملكية بيته الذي تركه حين نزح إلى غزة. والابن خرج من فلسطين وأسس عالماً اجتماعياً واقتصادياً لنفسه بعيداً عن العائلة والبلد والماضي. والابنة لم تزر فلسطين بعد، ولا تعرف أياً من أقربائها في ذلك المكان البعيد. ما يزال الوقت مبكراً لها كي تأخذ موقفاً من الأمر كله، لكننا نلحظ بأن هذه الزيارة هي بداية تشكّل هويتها وشخصيتها.
تفاصيل صغيرة تروى، ولأننا نراها من خلال عيني طفلة، فإننا نمر عليها سريعاً ولا نتوقف كثيراً عند الأحداث، إذ علينا أن نذعن لنفسية الطفلة التي تملّ بسرعة، ولذهنها الذي يلتقط ما يتعرض له أو يُعرض أمامه بعفوية وبراءة وعشوائية. لكنها كلها تفاصيل نخزّنها ونراكمها لنتمكن من تشكيل صورة عامة عن عائلة تبدو لنا مستقرة في البداية، قبل أن تكشف زيارة الجد هشاشتها.