تقف هذه الزاوية، مع مصمِّم غرافيك في أسئلة حول خصوصيات صنعته ومساهماته في الثقافة البصرية العامة.
■ كيف بدأت حكايتك مع التصميم الغرافيكي، أو كيف أصبحت مصمّمة؟
لطالما أحببتُ الرسم وأردت أن أصبح فنانة. وفي سن مبكرة، بدأتُ أمزج الكلمات بالصور من خلال رسم "الكوميكس"، وابتكار اللوغوهات والإعلانات. وفهمت في ما بعد أن التصميم الغرافيكي يمكن أن يكون العمل الذي يتيح لي استخدام المهارات الفنية ويمكن أن أعتمد عليه مادياً، وهكذا اخترت دراسته. كما أنني لمست فيه إمكانية إنتاج فن يمكن أن يصل إلى جمهور كبير. وبعد ثمانية أعوام من الممارسة، عدتُ إلى اهتمامي الأول؛ الرسم.
■ هل تعتقدين أن هناك لغة أو هوية تصميمية عربية خاصة، تعكس ثقافات وهوية المجتمعات العربية اليوم؟
أعتقد أننا كمصمّمين في العالم العربي لم نتمكّن من تطوير لغة بصرية تعكس الجمهور العربي أو تتوجه إليه، ولكن هذا الأمر أخذ يشغل كثيراً منا أكثر فأكثر. وهو مسألة إشكالية وصعبة تعكس أسئلة أكبر حول الهوية، ظاهرة في ذائقتنا، وتأثّرنا، وسياساتنا، ولغتنا.. إلخ. ويبدو أن تعريف المجتمعات العربية ككل واحد بات يزداد صعوبة مع الوقت، وبالتالي تحديد ما يعكس هويتها أو كيفية مخاطبتها يزداد صعوبة بالمثل. أنا منهمكة بهذه الأسئلة، وهي تحتاج إلى تحقيق وبحث، وإجاباتُها معقّدة.
■ هل يمكن تشبيه التصميم بالعمارة، بمعنى أننا نسكن اليوم في فضاء يصنعه المصممون؟
بعض المدارس الفكرية تربط حقول التصميم المتنوّعة ببعضها، مثل التصميم الغرافيكي، وتصميم الأزياء، والتصميم الداخلي، والعمارة، والدراسات العمرانية، والهندسة، بالنظر إلى اشتراك هذه الحقول في وسائل حل المشكلات وأساليب التصميم. البعض الآخر يسمّيها "فنون الغرافيك"، بحيث يدرجون هذه الفنون ضمن الفنون الجميلة الأخرى، من الطباعة وغيرها. إننا نعيش في زمن ونظام اقتصادي يلعب التصميم فيهما دوراً آخذاً في التزايد. يرتبط ذلك غالباً بالاهتمام الجمالي المتزايد بالأشياء اليومية والمساحات، وهي سمة ترتبط في كثير من الأحيان بالحاجة إلى خلق الرغبة المرتبطة بالاستهلاك.
■ كيف تنظرين إلى التصميم الغرافيكي، وهل تعتبرينه فنّاً أم صنعة، ولماذا؟
يتقاطع تاريخ التصميم الغرافيكي وفنون الغرافيك مع الفنون والحِرَف والصناعات. والحقيقة أن جانب الاتصال في التصميم وإنتاجه الضخم أمران يميّزانه عن الفهم التقليدي للفن كمكان للتعبير من خلال القطع الفنية الفريدة. واليوم، أصبح من الواضح أكثر فأكثر أن هذه الحدود هي بنى صلبة لا تعكس الواقع المعقّد؛ حيث الفن والصناعة يتقاطعان بطرق متعدّدة.
■ ما هي أبرز التحدّيات التي تواجه عملك كمصممة؟
كوني أعمل مصمّمة ورسامة وفنّانة ومدرّسة، أعتقد أنني وجدت طرقاً للعثور على إجابات لتحدياتي من خلال حقول أخرى في إطار ممارسة التصميم. التحدي الأساسي: أن أجد التوازن بين استخدام مهاراتي بطرق تجريبية وإبداعية، شرط أن تكون مجدية ومسؤولة، وهي أيضاً طرق مليئة بالتحديات على المستوى الفكري، وأن يكون عملي هذا في الوقت نفسه مصدراً للعيش بشكل جيد.
■ المسؤولية الاجتماعية للمصمم، كيف ترينها؟
باعتقادي أن لدينا كمصمّمي غرافيك امتيازاً، وهو حضور صوتنا في الفضاء العام وأننا نصل إلى جمهور واسع. لذلك تقع علينا مسؤولية اجتماعية وثقافية وسياسية تجاه المجتمعات التي نعمل فيها ونخاطبها. تشارك أعمالنا في تعريف ثقافتنا البصرية، ومحتوى رسائلنا هو مونولوغات وأفكار مطروحة في شوارعنا وعلى شاشاتنا وعبر آلاف الأوراق التي نطبعها ونوزّعها، وهي حاضرة حولنا في البحر والهواء. وبينما نتحدّث عن الاحترافية في التصميم كقيمة أساسية بين المصمّم وعميله، فإن نفس المستوى من الأخلاق لا بد أن ينطبق في ما يخصّ العلاقة بالمجتمع ككل: ألا تتوقّف أبداً عن كونك مواطناً واعياً.
■ كيف تعلّقين على غياب ظاهرة المصمّم الملتزم بقضايا مجتمعه واكتساح ظاهرة المصمّم التجاري أو ذلك الساعي إلى العمل لصالح الشركات والمؤسسات الفنية الكبرى؟
أعتقد، في لبنان بشكل خاص، أن عملنا كمصمّمين يخضع للنظام الاقتصادي السائد: حيث تم تطوير الوظيفة الرئيسية للتصميم ليصب في خدمة النزعة الاستهلاكية والمنافسة، وغالباً ما يتم ذلك من خلال الإعلان والعلامة التجارية، حيث يُستَخدم التصميم كأداة للإغراء والتلاعب من أجل خدمة مصالح النظام الرأسمالي الذي يحتاج إلى بيع فائض الإنتاج. إضافة إلى ذلك، فإن شخصية فنان الغرافيك الملتزم سياسياً تضاءلت ما بعد الحرب، ربما مع تغيّر دور الأحزاب السياسية بعد الحرب اللبنانية. هناك أيضاً أزمة كبيرة في المجال السياسي برأيي تنعكس على وفي لغة التصميم وأدواته الاتصالية. لم يختف الفنان أو المصمّم الملتزم سياسياً، لقد أصبح نادراً، لكنه لا يزال يكافح!
■ ماذا أبقت برامج التصميم الإلكترونية للعمل اليدوي، مقارنة بالسبعينيات والثمانينيات مثلاً؟
لقد قطعت الفجوةُ المفاجئة التي سببتها الحرب، والسياسات الاقتصادية الجديدة لما بعد الحرب، مع التقنيات والحرف والأدوات والممارسات السابقة (مثل الخط، ورسم اللافتات، وأيضاً طباعة الحروف، والشاشة الحريرية... إلخ). إنه تحدّ كبير أمام مجتمع ما أن يجد مساحة لأساليبه التقليدية ولمعرفته القديمة، بينما يواكب التكنولوجيا المتطورة بسرعة، والإمكانيات الجديدة التي تُقدّمها.
■ كيف تُقيّمين تعليم التصميم الغرافيكي في الجامعات العربية؟ نلحظ غياب معاهد خاصة بالتصميم وحتى نقصاً في كليات التصميم، ما السبب في رأيك؟
أعتقد أن الأمر على العكس من ذلك، ثمّة طفرة في البرامج التعليمية للتصميم الغرافيكي، على الأقل في لبنان. من الممكن أن العديد منها قام بتقليص هذه الممارسة إلى أدواتها التقنية، ولكن من المؤكد أن هذا المجال قد وجد مكانه في جزء كبير من الكليات التقنية والفنية والجامعات العامة والخاصة.
■ ما هو آخر تصميم قمتِ به؟
أعمل على تنفيذ عشرة مشاريع في الوقت نفسه: كتب ومنشورات وهويات بصرية وحملات ومواد مرئية لعروض أدائية وما إلى ذلك.
■ هل هناك تصاميم قمتِ بها وتندمين عليها؟
قمتُ بعمل بعض التصاميم البشعة والخرقاء في بداياتي. آنذاك كنتُ أعاني من صعوبة الجمع بين ذائقتي الفنية، والأدوات التي تعلمتها، والتوقعات التي لدي عما ينبغي أن يبدو عليه التصميم الجيّد. واضطررت أيضاً إلى العمل لمدة عام كامل في مجال الإعلانات لأدرك أن هذا لا يمكن أن يكون دوري في العالم. رغم ذلك لا أحسب أنني نادمة على كل هذه التجارب.
■ يوصف المصمّمون بأنهم أصحاب شخصيات "صعبة" و"زئبقية" أي يصعب التعامل معها.. هل توافقين على هذا؟ وما هو تفسيرك، وما هي نصيحتك أخيراً لمن يتعامل مع مصمم؟
يبدو لي هذا وكأنه تعميم كبير يقصِر المرء على مهنته. غالباً ما يتم وصف المصمّمين بأنهم شديدو الدقّة وتفصليّون على نحو كبير. ولكن هذه صفات الأشخاص الحسّاسين والمتطلّبين بالعموم. ومع ذلك، العديد من المصمّمين الرائعين والمبدعين ليس لديهم أي من هذه الميزات.
بطاقة
تُدرّس جنى طرابلسي التصميم والرسم وتحاضر في النظرية والتاريخ، في لبنان وخارجه. هي المؤسّس المشارك والمدير الفني لمجّلة "بدايات" الفصلية، والمدير الفنّي في دار نشر "صنوبر بيروت". شاركت في تأسيس مجموعة "Sigil" التي عرضت في البندقية ومراكش وأوسلو وبيروت. ترسم للصحف وكتب الأطفال والقصص المصوّرة. تستكشف أعمالها أساليب البحث البصري والكتابة وصناعة الصورة، وغالباً ما تجسر بين ما هو شخصي وسوسيو-سياسي.