لم يكتف الاحتلال الإسرائيلي بتسوير مدينة القدس المحتلة بجدار عنصري وبناء عشرات الآلاف من الوحدات الاستيطانية، وتدمير المئات من منازل الفلسطينيين، بحجة أنها بنيت من دون ترخيص، إذ انتقل إلى مرحلة جديدة من عملية التغيير الديمغرافي في المدينة، مع سحب اعترافه بشرعية ومرجعية عدد من المخاتير الفلسطينيين في القدس، ممن يمكن الاعتماد على شهاداتهم بملكية الأرض، وتحويل هذه الصلاحيات لعدد من موظفي البلدية الذين يديرون مؤسسات جماهيرية في مدينة القدس تتبع لبلدية الاحتلال.
وتأتي الحرب الجديدة على المقدسيين في إطار معركة كبرى يشنها الاحتلال الإسرائيلي تهدف إلى نزع الشرعية الدينية والقانونية عن كل ما هو فلسطيني، إذ إنها جاءت بعد أيام من معركة باب الرحمة، التي انتصر الفلسطينيون فيها، والتي ردت السلطات الإسرائيلية عليها بإبعاد عدد من المدافعين عن الأقصى لمدد قد تصل إلى أشهر.
وذكر تقرير لصحيفة "هآرتس" الإسرائيلية، أمس الأحد، أن بلدية الاحتلال الإسرائيلي ولجنة التنظيم والبناء التابعة لها، بدأت بوضع عراقيل جديدة أمام حصول الفلسطينيين في القدس المحتلة والأحياء والقرى التي ضُمت إليها، على تراخيص للبناء. وتأتي الخطوة بعد قرار اللجنة، بمبادرة سابقة انضم إليها رئيس البلدية السابق نير بركات، وقف الاعتراف بشهادات الملكية لأصحاب قطع البناء الفلسطينيين، كان جرى إصدارها من قبل المخاتير في القرى والأحياء الفلسطينية. وذكرت الصحيفة أن لجنة التنظيم والبناء التابعة لبلدية الاحتلال رفضت، الأسبوع الماضي، إقرار 20 مخططاً للبناء قدمها مواطنون فلسطينيون من القدس، بعد إقرار عدم الاعتراف بالعرف السابق الذي كان كافياً لكي يقدم سكان القدس وثيقة موقّعة من مخاتير القرى والأحياء الفلسطينية تؤكد ملكيتهم للأرض التي يطلبون البناء عليها، وذلك في ظل غياب إقرار بملكية الفلسطيني في القدس لأرضه، لعدم تسجيله بانتظام في دائرة الأراضي "الطابو". وأشارت إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلي بدأت أخيراً بسحب اعترافها بشرعية ومرجعية عدد من المخاتير الفلسطينيين في القدس، ممن يمكن الاعتماد على شهاداتهم بملكية الأرض، وحوّلت هذه الصلاحيات لعدد من موظفي البلدية الذين يديرون مؤسسات جماهيرية في مدينة القدس تتبع لبلدية الاحتلال. ويعني وقف الاعتراف بشهادات ملكية الأراضي التي يصدرها مخاتير ووجهاء القرى والأحياء الفلسطينية منع أي فلسطيني من الحصول على تراخيص بناء ما لم يقدم أوراق ملكية رسمية، ما يحدّ من فرص البناء للمقدسيين ويسد الطرق أمام حصولهم على تصاريح بناء.
ووصف خبراء ومحللون فلسطينيون في القدس المحتلة قرار بلدية الاحتلال الإسرائيلي في المدينة سحب تصاريح إجازة ملكية الأراضي من مخاتير الأحياء المقدسية، وتحويلها إلى مديري مراكز جماهيرية عينهم الاحتلال، بأنها خطوة جديدة في التصعيد الاحتلالي ضد كل مظاهر الوجود الفلسطيني في القدس، ما سيترك آثاراً مضاعفة على حركة البناء ويضع قيوداً مشددة جداً عليها، تنعكس على الصراع الديمغرافي في المدينة لصالح الاحتلال وإمعانه في تهويد المدينة. وقال مدير مركز القدس للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، زياد الحموري، لـ"العربي الجديد"، إن "هذا الإجراء الجديد بمثابة خطوة تصعيدية من قبل بلدية الاحتلال، وجزء من مخطط استكمال السيطرة على مدينة القدس وتهويدها بالكامل، والانقضاض على ما تبقى من ديمغرافية فلسطينية فيها، كانت حققت في السنوات القليلة الماضية ارتفاعاً مهما في نسبة المقدسيين، إذ وصل إلى نحو 40 في المائة من إجمالي عدد السكان". وأضاف أن "الاحتلال ينفذ سياسة جديدة بخطواته الأخيرة، معتمداً على أذرعه التنفيذية ممثلة بالمراكز الجماهيرية المعينة من قبله، والتي خصص لها أخيراً ميزانيات طائلة لتنفيذ برامج تحت مسمى تحسين جودة الحياة، تشمل استقطاب الشباب الفلسطيني في القدس إلى نشاطات ترفيهية وثقافية واجتماعية مفرغة من أي انتماء وطني، وتخدم توجهات الاحتلال في محاولة لدمج شبابنا في مجتمع الاحتلال".
وأشار الحموري إلى أنه وعلى "الرغم من وجود المخاتير وإعطائهم دوراً في المصادقة على ملكيات أراضي المواطنين مقابل منحهم تراخيص بناء، فإن هذه المصادقات لم تؤد إلى حصول المقدسيين على حقوقهم في الحصول على رخص بناء، وإن منحت فبنسبة ضئيلة جداً من الطلبات المقدمة، بينما لاحظنا ارتفاعاً كبيراً في عمليات الهدم، كما حصل العام الماضي، حيث سجل هدم أكثر من 140 مسكناً ومنشأة". ولفت الحموري إلى أن "دور المخاتير ما بعد الاحتلال اختلف كلياً عن دورهم قبله، إذ كان مختار الحي أو القرية ملما بالتفاصيل المتعلقة بملكيات الأراضي، على عكس ما هم عليه مخاتير اليوم، والذين لا يحظون في الغالب بشعبية من قبل المواطنين، بل ينظر إليهم على أنهم أدوات للاحتلال".
بدوره، قال خبير الأراضي والاستيطان خليل تفكجي، في تعقيبه على الإجراء الجديد، إن "هذا الإجراء جزء من سياسة مكافحة البناء الفلسطيني في القدس، والحد منه إلى أقصى الحدود". وأضاف، لـ"العربي الجديد"، أن "كل مواطن كان يتقدم بطلب رخصة بناء كان لزاماً عليه أن يظهر ملكيته لأرضه من خلال شهادة الطابو، علماً بأن أكثر من 80 في المائة من أراضي القدس لا تشتمل على طابو. أما النسبة المتبقية فكان لزاماً على المواطن أن يذهب إلى مختار منطقته ليحصل منه على إقرار بملكيته لأرضه، وهذا كان من سابع المستحيلات". وتابع "أما اليوم، فقد أنيط هذا الدور بالمراكز الجماهيرية التي تتبع لبلدية الاحتلال، ما يعني أننا أمام تصعيد آخر في حرب الديمغرافيا في القدس وحسمها لصالح الاحتلال، من خلال إخراج أكثر من 20 ألف مقدسي من المدينة لن يجدوا مساكن لهم، ليضاف هؤلاء إلى نحو 200 ألف باتوا اليوم خارج المدينة، في مناطق عزلها جدار الفصل العنصري. إذ إن تطفيش المقدسيين جزء من سياسة التطهير العرقي الممارسة من قبل الاحتلال وحسم الديمغرافيا لصالحه".
أما المحلل الإعلامي والسياسي المقدسي، راسم عبيدات، فوضع خطوة بلدية الاحتلال في إطار محاولة لربط المقدسيين بأدوات الاحتلال التي تمثلها تلك المراكز، وخلق قواعد لها في البلدات والأحياء المقدسية تتحكم بأوضاع سكانها في مختلف المجالات وتضعهم تحت رحمتها. وقال، لـ"العربي الجديد"، إن "هذه المراكز تعد أذرعاً للاحتلال، ومهمتها تنفيذ سياسات الاحتلال تحت عناوين براقة. وسحب تصاريح المخاتير هو تعقيد جديد يضاف إلى إجراءات الاحتلال الأخرى من هدم ومصادرة أراضٍ والإبعاد عن القدس والمسجد الأقصى كما يحدث كل يوم، وبالتالي هم ماضون في سياسة تفريغ المدينة من أهلها وأصحابها الشرعيين".
وكانت القوى الوطنية والإسلامية في القدس حددت، في بيان، العام الماضي موقفها من هذه المراكز، مؤكدة "رفضها لسياسة إسرائيل الاحتلالية القائمة على التوسع الاستيطاني وتزوير تاريخ المدينة وتراثها والعمل على السطو والتجهيل والتدمير للأجيال، تحديداً الشباب منهم، عبر المراكز الجماهيرية، التي تخدم هذا البرنامج الاحتلالي الاستعماري". وتمسكت القوى "بالفتوى الشرعية برفض ونبذ هذه المراكز التي عبر عنها خطباء المسجد الأقصى عدة مرات، وفي كل المراحل"، موضحة أن "هذه المراكز الجماهيرية المأجورة ما هي إلا شكل ناعم من أشكال الاحتلال وسياساته في مدينة القدس، إذ لا يعقل أن من يعطي أوامر بالهدم وملاحقة أهالي القدس أن يكون حريصاً على الأبناء، فلا فرق بين جرافة تقوم بالهدم، ومركز تؤسسه وتدعمه تلك الجهة". ودعت إلى "مقاطعة شعبية ووطنية لكل من يروج ويعمل في هذه المراكز المأجورة".
إبعاد سلهب وبكيرات
واتهم الأردن، أمس الأحد، إسرائيل باستهداف ممنهج للمسجد الأقصى وإدارته، عبر إبعاد رئيس مجلس الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية في القدس الشيخ عبد العظيم سلهب 40 يوماً، ونائب المدير العام لدائرة الأوقاف الاسلامية الشيخ ناجح بكيرات أربعة أشهر عن الحرم القدسي، بالإضافة إلى استدعاء عدد آخر من أعضاء المجلس، واقتحام منزل عضو المجلس حاتم عبد القادر لتسليمه استدعاء للتحقيق. وقال وزير الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية الأردني عبد الناصر أبو البصل إن "اتخاذ الإبعاد وسيلة ضغط للتدخل في المسجد الأقصى أمر مرفوض، يزيدنا تصميماً وتمسكاً بأن باب الرحمة جزء لا يتجزأ من المسجد الأقصى، وغير قابل للتفاوض أو التقسيم أو المشاركة". وكان مسؤول رفيع المستوى في مجلس الأوقاف الإسلامية في القدس قال، لـ"العربي الجديد"، إن الديوان الملكي الأردني رفض عرضاً إسرائيلياً بإغلاق باب الرحمة، مقابل وقف الاستدعاءات وكافة الإجراءات ضد أعضاء المجلس.
كما حضرت القدس في افتتاح أعمال الدورة الـ 29 للاتحاد البرلماني العربي، في عمان، والذي يستمر ليومين تحت عنوان "القدس العاصمة الأبدية لدولة فلسطين". وشدد وزير الخارجية التركي، أحمد جاووش أوغلو، خلال اجتماع تشاوري لسفراء فلسطين في الدول الأوروبية منعقد في إسطنبول، على "أهمية إبقاء القضية الفلسطينية حاضرة على أجندات المجتمع الدولي"، مكرراً "حرص تركيا على الحفاظ على وضع القدس التاريخي والقانوني، والدفاع عنها في المحافل الدولية".