رفاقنا في بيليز

23 فبراير 2015
مقطع من لوحة "مدينة محطمة" لـ أليخاندرو أوبسينا
+ الخط -

بيليز دولة صغيرة في أميركا الوسطى، في جنوب المكسيك هائلة المساحة، ثمة بقعة صغيرة جداً تطل على المحيط، وهي الآن مستقر صديقة عزيزة رحلت إلى هناك منذ أسابيع.

الصديقة ذات الأصل الفلسطيني عاشت مرتحلة طوال عمرها، بين السعودية ومصر وبريطانيا، تدفعها تشابكات أوسلو والبحث عن جنسية وأوراق تتيح لها الحياة في أي بلد والسفر إلى أي بلد. وفي منتصف التسعينات قرَّر رب الأسرة أن يشتري جنسية دولة بيليز، وهو ما كان عملاً شرعياً حينها، ومنذ ذلك الوقت بدا للأسرة وكأن بيليز هي المستقر والملاذ النهائي.

انخرطت صديقتنا في ثورة يناير مثلنا تماماً، يدفعها حبها لبلد والدتها وكرهها لمبارك، مثلنا تماماً، آملة في حياة أفضل لمصر ولها، مثلنا تماماً. ورويداً رويداً مات الحلم، مثل حلمنا تماماً. وهذا ما دفعها أخيراً للرحيل إلى الدولة النائية ذات الطبيعة والحياة الاجتماعية البعيدتين كلياً عنَّا.

بالتأكيد ستحتفظ صديقتي البيليزية بهويتيها الفلسطينية والمصرية، وربما لن يندمج أبناؤها في المجتمع البيليزي تماماً، وربما سيندمج الأحفاد، لكن ستبقى الهويتان الفلسطينية والمصرية.

الهوية في مصر تعني الكثير، موجودة في عادات الأكل والزواج والموت والولادة، في كل شيء، موجودة حتى أننا لا نلتفت لفكرة "الهوية" ذاتها، لم نفتقدها يوماً. ولن ينتبه إليها إلا من عاش خارج مصر وسعى إلى الحصول على طعام مصري بسيط في نيويورك مثلاً، أو في بيليز، حيث الأمر أكثر صعوبة. ولهذا ربما كان اهتمامنا بالجنسية أكثر من اهتمامنا بالهوية.

خلال الأيام الماضية حُكم على مواطن مصري - كندي بالسجن في الدرجة الأولى من محاكمته، قضية محمد فهمي ليست عادية، هي قضية صحافيي "الجزيرة" المشهورة إعلامياً في مصر بـ "قضية خلية الماريوت".

يشمُّ الواحدُ رائحة اتهامات الخيانة والعمالة تظهر مع كل تناول إعلامي للقضية، وهو ما أفقد المتهمين تعاطف الناس في البداية. ازداد التعاطف بالطبع خلال الأيام السابقة، لكنه تعاطف المُقيّد الذي لا يملك أن يدفع الظلم. وربما كان ما حصل لمحمد فهمي سبباً في خلق ذلك التعاطف الخاص.

بعد حكم الدرجة الأولى من مقاضاته، تنازل فهمي عن جنسيته المصرية، بدا له ذلك الطريق الوحيدة نحو عفو رئاسي، تنفيذاً لقانون أصدره رئيس الجمهورية يتيح فيه لنفسه العفو عن أي مسجون أجنبي. لكن العفو لم يصدر، وبقيَ فهمي مسجوناً حتى بعد تنازله عن جنسيته.

ثم قرَّرت محكمة جنايات القاهرة، التي تعيد محاكمة فهمي وزملائه، إخلاء سبيل جميع المتهمين من دون كفالة، ما عدا فهمي الذي قرَّرت إخلاء سبيله بكفالة قدرها 250 ألف جنيه مصري. قال فهمي إن أخاه ساهم في دفع مبلغ الكفالة، وها هو الآن خارج السجن الصغير، يعيش في القاهرة ويضطر للذهاب يومياً إلى الشرطة ويوقِّع في دفتر ليثبت وجوده في مصر.

يشتكي فهمي الآن من إطلاق سراحه المشروط، ويطلب من رئيس وزراء كندا التدخل لرفع اسمه من قوائم الممنوعين من السفر، أسوة بما فعل رئيس الوزراء الأسترالي مع زميله الصحافي المتهم في القضية نفسها بيتر جريسته.

وهكذا، فقد فهمي جنسيته المصرية طوعاً، وفقد آلافاً تعدُّ ثروة عند المصريين، ولم يحصل على حريته الكاملة بعد، ولا يزال متهماً بالعمالة والخيانة، وعلى الرغم من كل ما حدث، فهو لا يستطيع فعل أي شيء.

وبين الصديقة في بيليز ومحمد فهمي، الذي أتمنى أن يستقر في كندا قريباً، كثيرون ممن باتوا لا يشعرون بالانتماء إلى أي شيء.

ماذا لو تنازل الواحد عن جنسيته الوحيدة وبات بلا جنسية على الإطلاق؟ ألن يتحرَّر إلى الأبد؟


* روائي من مصر

دلالات
المساهمون