رغبة ترامب المتجدّدة

11 يوليو 2017
+ الخط -
قليلون من يعتقدون أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، عميق التديّن إلى درجة التعصب، لكنه مع ذلك وجد نفسه منساقا نحو رغبةٍ جامحةٍ لتعبئة الغرب وراءه من أجل خوض حربٍ كونيةٍ ضد ما يسميه "التطرّف الديني الإسلامي". ليس السيناريو جديدا، إذ سبق للمحافظين الجدد أن نظّروا له، ووظفه بوش الأب والابن في سياستهما الخارجية، وكانت له تداعيات خطيرة على العالم الإسلامي والشرق الأوسط. اليوم ينفخ الرئيس الأميركي من جديد في هذه الرؤية الصراعية للعالم.
جاء خطاب ترامب في بولونيا، أخيرا، قبل التحاقه بقمة العشرين في هامبورغ، ليزيد من إرباك الغربيين عموما، والأوروبيين تحديدا. استفزّهم بشكل مباشر، عندما طرح عليهم سؤالا مقلقا جدا: هل أنتم على استعداد للدفاع عن هويتكم ووجودكم؟ ذكّرهم بأزمة عميقة تعيشها أوروبا منذ أكثر من قرن، وكلما بدا لها أنها قد حسمت أمرها، واتضحت الرؤية أمام قادتها ونخبها، إلا وجاء من أعاد خلط الأوراق، وأرجعها إلى حالة القلق الوجودي الذي يثير الحيرة، ويقضي على الاطمئنان والثقة في النفس.
لا تحتاج السياسات الكبرى فقط إلى خبراء ورسم أهداف وإعداد جيوش وتسخير أموال، وإنما قبل ذلك كله يبحث السياسيون عن شعاراتٍ براقة، توحي بأنهم يملكون مشروعا حضاريا وثقافيا ضخما، من شأنه أن يغير بلادهم، أو العالم برمته. وفي الغرب، اليوم هناك أزمة أفكار وأزمة رؤى. أكثر من ذلك، يمر الغرب، منذ فترة طويلة، بأزمات متعدّدة، منها المالية ومنها سياسية، لكن الأهم في الغرب أزمة هوية. وكما هو الشأن في منطقة الشرق الأوسط، يتوهم زعماء غربيون ومثقفون كثيرون، يبحثون عن عدو ما، لكي يخوضوا ضده حروبا حقيقية وأخرى وهمية، لأنهم يعتقدون أن ذلك هو السبيل الأنجع لبناء هوية وامتلاك مشروعٍ قومي، أو كوني. ومن يعتقد أن الغرب قد حسم أمره منذ قرون مع العامل الديني فهو مخطئ وواهم. لقد ضعف الدين بوصفه هوية روحية، لكنه بقي ورقة يحتاج لها السياسيون في حالات الفراغ، وعند المرور بمنعرجات خطيرة.
ففي اللحظة التي يتم فيها اجتثاث تنظيم داعش من الموصل والرقة وبنغازي، يتوجه الرئيس الأميركي بنداء إلى الغرب، يدعوه إلى الالتفاف حوله، وبقيادته، لخوض الحرب على الإرهاب والتطرّف، وكأن السياسات الغربية، والأميركية تحديدا، ليست شريكا أساسيا في المسؤولية المتعلقة بتوفير المناخ الملائم لانتشار الأفكار السوداء، وتنمية الرغبة في الانتحار لدى جزءٍ من شباب هذه المنطقة المنكوبة التي تتعرّض يوميا للابتزاز والتهميش بكل مظاهره، ومن مختلف الجهات والمحاور.
هناك مشكلتان تبرزان لمن يفتح عينيه جيدا. الأولى أن مقاومة ما يسمّى التطرّف العنيف أمر ضروري، لأنه في النهاية هو إطلاق نار على الجميع عشوائياً وبشكل غبي. لكن، هناك من يسعى باستمرار نحو استغلال هذا الانحراف الفكري والسياسي لدى هذه المجموعات التي أخطأت الهدف، وأساءت تأويل النصوص والتاريخ. ومن هناك، تحويل المعركة من مجرد السيطرة الأمنية والسياسية على هذه المجموعات إلى مشروع "حضاري وسياسي"، يهدف إلى تأمين استمرار السيطرة على العالم، وتحويله إلى سوق مفتوحة للشركات والدول الرأسمالية المتعطشة للمال واحتكار الثروات. وفي هذا السياق، يصبح "داعش" أو غيره من العناوين من ضرورات المرحلة لتأمين مستقبل الغرب. ومهما كانت الشعارات التي يستعملها سياسيون ومثقفون كثيرون، فإن الوجدان الغربي الموروث من التاريخ الوسيط مهيأ لكي يعيد إنتاج الصراع القديم مع الإسلام.
المشكلة الثانية داخلية بالأساس، وتتمثل في الاستعداد المتجدّد لدى حكام المنطقة، وجزء واسع من نخبها، للعب دور الأدوات المنفذة لهذه السياسات، فالحرب الكونية ضد الإرهاب التي يتحدّث عنها ترامب سيدفع ثمنها العالم العربي والإسلامي، أرضيت شعوبها أم لا. والدفع يكون متنوعا: نقدا وصفقات أسلحةٍ واستهلاك بضائع زائفة وزائلة، وتنازلا عن السيادة والاستقلال، واستقبال مزيدٍ من الجيوش والخبراء والمغامرين.