رشيد غُلام.. من منافذ أُخرى

10 سبتمبر 2015
(مشهد من الفيلم)
+ الخط -

بصورٍ فوتوغرافية بالأبيض والأسود لطفلٍ وسيم، يرتدي في الغالب بدلةً كلاسيكية، يبدأ وثائقي "رشيد غُلام" (47 د. 2015) للمخرج مصطفى محفوظ، مُستعيداً طفولة الفنان المغربي في الدار البيضاء؛ حيث وُلد وعاش في حيّ شعبي، وبدأ الغناء في سنوات الدراسة الأولى، ليُقدّم حفلاً في الإذاعة والتلفزيون، وعمره لم يتجاوز السادسة.

نسمع، بدايةً، شهادات لأصدقاء الطفولة وزملاء الدراسة عن طفل عُرف بذكائه وشغبه وموهبته الموسيقية. يسترجع صديقه محمّد مهنّا صورة ذلك الطفل الذي "يدخل ببدلته الزرقاء وطربوشه الأحمر، ثمّ يبدع في الغناء"، مضيفاً: "كان الممثّل الدائم لمدرستنا في النشاطات المدرسية التي تُقام في المناسبات الدينية والوطنية".

سيتمّ اختياره للغناء في "السهرة العمومية" التي يبثّها التلفزيون المغربي على الهواء. قدّم مع فرقة موسيقية كبيرة، أغنية ناظم الغزالي "أيَّ شيء في العيد أهديك يا ملاكي"، واستمع إليها ملايين المشاهدين. كان ذلك بدايةً لـ "بروز ظاهرة جديدة لفتت الأنظار"، كما يعلّق صديقه عصام زيدان.

لكن بالنسبة إلى غُلام، فقد كان بدايةً لما يسمّيه "اختطافاً" من طفولته إلى عالم الليل والموسيقى: "أيقنتُ أن الغناء في الأوكار والفنادق والقصور المغلقة يُؤذي سلامة الفطرة، فرُحت أبحث عن إنسان آخر غير ذلك الضائع وسط زحمة الأضواء والأهواء".

ابتعد غُلام عن "سكرة" الموسيقى -كما يسميها- وعاد إلى "المدرسة الشرعية". في هذه المرحلة، التحق بـ "جماعة العدل والإحسان" المحظورة، بعد لقائه بزعيمها الراحل الشيخ عبد السلام ياسين الذي أقنعه، أيضاً، بالعودة إلى الفن: "لديك هبة ربّانية، ويجب أن توظّفها في خدمة الإنسانية".

هكذا، عاد إلى الفن من خلال الموشّحات والمديح الديني والموسيقى الصوفية؛ حيث أعاد صياغة عدد من الأغنيات التراثية وقدّمها بأسلوب جديد. يقول زيدان: "حين نسمع عن فنّان شاب وزاهد في القرن الحادي والعشرين، سيبدو الأمر مُبالغاً فيه. لكن رشيد، من دون مبالغة، زاهدٌ بمعنى الكلمة".

يعرض الشريط وجهات نظر مختلفة حول هذه المرحلة؛ فبينما يعتقد الناقد الموسيقي ياسر بوسلام أن هذا التحوّل جاء كرّد فعل على "انحطاط" وتغيّر اتّجاهات الموسيقى العربية، يفضّل زيدان عدم استخدام تعبير "الفن الملتزم"، قائلاً إن غلام كان يؤدّي فنّاً من دون رسالة، ثم انتقل إلى تأدية "فن رسالي".

يعرّف غُلام "الفن الرسالي" بأنه فن يحترم القوالب الجمالية ويُبدع فيها، لكن بحمولة تنبّه الإنسان إلى معنى وجوده، ليكون "فنّاً مقاصدياً". يضيف: "الفن هو ثمرة معاناة الإنسان وبحثه عن الجمال الأوحد الذي هو الله".

يقول الصحافي نور الدين الأشهب إن غُلام حاول أن يُصالح جمهوراً كبيراً من الحركة الإسلامية مع الفن، وهذا ما يؤكّده غُلام نفسه: "أريد أن ألقي حجراً في المياه الراكدة عند الإسلاميين، ليعيدوا صياغة تصوّرهم عن الفن، بتقديم فن يخدم القيم التي تواضعت عليها الإنسانية".

يعرض الشريط، الذي أنتجته قناة "الجزيرة الوثائقية"، شهادات لموسيقيين وكتّاب وإعلاميين، منهم عازف العود العراقي نصير شمّة الذي يقول: "فاجأتني حنجرته التي ليس لها مثيل في المشرق كلّه. يؤدّي أغاني أم كلثوم على طريقة المشايخ الكبار بتكنيك غريب جدّاً، لديه مساحة عريضة في الجوابات تجعله يؤدّي بدون جهد".

أمّا الموسيقي المغربي نعمان الحلو، فيقول إنه استمع إلى غُلام، للمرّة الأولى، في مدينة فاس. ومنذ ذلك الحين، بدأ بتتبّع أعماله وأفكاره، ليكتشف أنه يتميّز بقوّة موسيقية نابعة من الزخم والموروث الذي يغرف منه، دون أن يكون متعصّباً لنوع موسيقي معيّن. يضيف: "إلى جانب إحساسه وصوته وطبقاته الكثيرة التي يصل إليها بسرعة، يتميّز بكونه ينطلق من فكر وقناعات، قد نتّفق أو نختلف معها، لكنها تجعل فنّه أجمل وأقوى".

يتّفق الأشهب مع الرأي السابق؛ إذ يصف غُلام بأنه "فنان كبير ينطلق من خلفية معرفية وإيديولوجية متماسكة، استطاع أن يرقى بفنّه من الحزبية إلى مصاف الإنسانية". ثمّ يذكّر بمقال كتبه عن منعه من الغناء في مهرجان "موازين"، متسائلاً: "هو فنان عربي كبير بشهادة كبار الفنانين في العالم، فلماذا يُمنع من الغناء في بلده بمجرّد أن له موقفاً سياسياً معيّناً؟".

هنا، يفتح الفيلم على "ثمن" يبدو أن غُلام دفعه نتيجة مواقفه وانتمائه السياسي والإيديولوجي؛ حيث يستمرّ منعه من الفضاء العام منذ أكثر من اثنتي عشرة سنة. يعلّق غُلام قائلاً: "ضاق الخناق كثيراً وتعرّضت لمضايقات، قبل أن تبدأ سلسلة من المساومات والإغراءات للابتعاد عن نهجي والانضمام إلى النظام"، مضيفاً: "الأنظمة السياسية العربية تنظر إلى الفنان على أنه مهرّج. هي لا تتصوّر فناناً مثقّفاً لديه موقف معارض وتصوُّر للشأن العام".

تكفي نظرة سريعة على سيرته الذاتية، لنكتشف أنه تعرّض إلى المنع وإلغاء حفلاته تسع مرّات بين سنتي 2000 و2006، بينما وصل عدد المرّات التي أوقف وحوكم فيها إلى 13 مرّة بين سنتي 2003 و2007. يقول الفنان المغربي إن المنع لم يقتصر على المغرب، بل تعدّى حدوده الجغرافية: "مُنعت بورقة من وزارة الخارجية من دخول عدد من الدول العربية والغناء فيها".

لكن غُلام يعتقد أن المنع أصبح "بلا معنى" الآن، بفضل الوسائط الإعلامية الجديدة التي كسرت الحصار المفروض عليه: "من الصعب أن تحاصر الماء، لأنه سيبحث دائماً عن منفذ آخر".

المساهمون