رشيد بوجدرة وتفاهة الفكاهة

06 يونيو 2017

رشيد بوجدرة.. استنطاق بوليسي وإذلال ممنهج في "كاميرا خفية"

+ الخط -
يعلم المتابعون للفكر السياسي ما أثارته عبارة الفيلسوفة الأميركية من أصل ألماني، حنة أرندت، من جدل، عندما ذيلت عنوان كتابها "إيخمان في القدس"، بعبارة "تفاهة الشر"، على الرغم من تعريفها تلك العبارة بغياب الفكر. ومع ذلك، تفرض العبارة نفسها على أذهاننا، لدى متابعة ما حدث للروائي الجزائري، رشيد بوجدرة، من استنطاق بوليسي، وإذلال ممنهج، يستدعي المكبوت المرعب، بدعوى بث حصة للفكاهة والضحك والاستمتاع، فإذا بها تتحول إلى كابوس حقيقي.
قد لا تكون هنالك علاقة مباشرة بين عبارة "تفاهة الشر" وما حدث للروائي المعروف. ومع ذلك، ثمّة سؤال يفرض نفسه على كل متتبع للحالة الثقافية في الجزائر، وخصوصاً في شكلها الإعلامي، وهو: لماذا كل هذا الاستهتار بالعنف بجميع أشكاله الرمزية والمادية في الجزائر؟ ولماذا هذا التوجه الإعلامي وغيره إلى تعزيز العنف في سلوك الناس وعقولهم، عبر تقديمه في صورة عادية وتافهة؟ ألم تكفنا العشرية الحمراء وما عرفناه من مآس؟ لا أظن أن من شاهد حلقة الاستنطاق التي خضع لها رشيد بوجدرة، لم يسترجع تلك السنوات المرعبة، حيث الخوف سيد الموقف.
ويذكّرنا ذلك الموقف التمثيلي المرعب بالتجربة التي استوحاها الطبيب، ستانلي ميلقرن، من فكرة حنة أرندت، وأجراها، في بداية ستينيات القرن العشرين، على أناس عاديين تقمّصوا بيسر شخصية الجلاد، وعرض ذلك كله في كتاب أصبح مشهوراً في علم النفس السياسي، عنوانه "الخضوع للسلطة".
نعم، قد لا تصحّ هذه المقارنة من بعيد، ولكن ما قام به ممثلو الحصة من استدعاء لتصريحات سابقة للكاتب، تتصل بمعتقده، وموقفه من الدين، وردود الفعل التي صاحبتها، وخصوصاً ما تعلق بحكم "التكفير"، و"عدم الصلاة على جنازته"، ومنع "دفنه في مقابر المسلمين"، و تزعمتها أصوات بعضها، مع الأسف، ينتمي إلى إحدى الجمعيات الدينية في الجزائر، كانت في ما مضى مثالا للتسامح، سواء في فكرها أو في ممارستها، وكان رئيسها الأول المرحوم الشيخ عبد الحميد بن باديس، قد نشر مقالا يصح وصفه ببيان في التسامح عنوانه: "التسامح الإسلامي.. نظر المسلمين إلى غير المسلمين ونظر غيرهم إليهم".
يجعلنا استدعاء ذلك المكبوت نرى أن عملية الاستنطاق تلك كانت مقصودة، وتهدف إلى ضرب صورة المثقف في الجزائر، وذلك بإظهاره في صورة الشخص المهزوز، الفاقد للإيمان بمعتقداته، والمتذبذب في مواقفه، وأن ممارسة قدر من العنف الرمزي والمادي عليه يؤدي إلى تغيير مواقفه واعتقاداته، ذلك كله من أجل ماذا؟ من أجل تحقيق قدر من الفرجة والفكاهة، ولو على حساب أبسط المبادئ والحقوق المتمثلة في حرية الضمير والتعبير، لأن المهم، أولا وأخيرا، تلبية مطلب السوق، وتحقيق أكبر الإيرادات، وأعلى معدلات المشاهدة. لذلك كله، أرى أن تلك الوصلة التلفزيونية قد توسلت الاستنطاق وسيلةً لفكاهتها السمجة، وقام ممثلوها بدور الجلاد، وقدّموا صورةً "لتفاهة القبح" الذي يعني غياب الجمال، والذوق، والمتعة، ويعزّز، مرة أخرى، صورة عمل إعلامي يفتقد أدنى المعايير الأخلاقية والمهنية.
وإذا صحّ أن الروائي رشيد بوجدرة لم يوافق على بث تلك الحلقة التلفزيونية، وهو ما تظهره ردود فعله في أثناء التصوير، وكذلك ما قام به من احتجاجٍ لقي مساندة كبيرة من المثقفين والفنانين الجزائريين والعرب وفي العالم، فإن هذا يعني أن بعض أجهزة إعلامنا قد تحلّلت من كل التزام أخلاقي. ولكن ما يجب أن يكون في البال أن هذه الحلقات أو البرنامج ليست إلا نقطةً في بحر الفوضى الإعلامية التي يعرفها الفضاء الجزائري.
ومع أن الحكومات المتعاقبة تَعِدُ بالتنظيم والمتابعة والرقابة لهذا القطاع الحيوي، إلا أنها على ما يبدو لا تراقب، ولا تنظم، ولا تتابع إلا ما له صلة ومصلحة مباشرة بسير أمورها، وأن لا عزاء للجزائريين إلا في عودة الروح إلى بعض مواطنيها الذين يحاولون مقاومة هذا الطوفان، ومنهم هؤلاء الذين وقفوا وقفة مساندة لما تعرض له الروائي رشيد بوجدرة من إذلال وعنف.
6219AD04-CFC6-407B-81FA-C5B2C6305F81
6219AD04-CFC6-407B-81FA-C5B2C6305F81
الزواوي بغوره
الزواوي بغوره