رشيد أورمدان: كوريغرافيا القمع

04 ابريل 2015
مشهد من العرض (تصوير: باتريك إمبير)
+ الخط -

منذ عدة سنوات والفنان الجزائري الفرنسي رشيد أورمدان (1971) يتعمّق في لغة كوريغرافية فريدة تقترب إلى حدٍّ كبير من الواقع الموثّقَ. فأعماله المتتالية تتأمّل العالم وتكشف هويات معقّدة، ومسارات منفى، ومواجهات مع عنف التاريخ. لكن بدلاً من أن تقع في الواقعية الوثائقية، تسعى خلف شعرية في تمثّلاتها الخيالية، وتنجح غالباً في بلوغها.

اللافت أيضاً في معظم هذه الأعمال هو ارتكازها على الأداء المنفرد، الوضعية المفضّلة لأورمدان، بخلاف عمله الأخير "بوليس!" الذي استضافه أمس "مسرح المدينة" في باريس، وشارك فيه حشدٌ من الراقصين والراقصات. عملٌ ذو طابع سياسي، يتغذّى من تاريخٍ جماعي، وبالتالي تطلّب أيضاً حضوراً غفيراً من آفاق مختلفة على الخشبة.

وفي الأساس، "بوليس!" هو نص للكاتبة الفرنسية سونيا شيامبريتو التي تقترب في كتاباتها من الشعر السمعي، وتستقي، مثل أورمدان، مادتها من الوثائق التاريخية والشهادات والمقابلات؛ مواد تعيد توليفها ضمن إيقاعات وعمليات إصداء، مرتكزةً في ذلك على تقنية المونتاج.

وفي نص "بوليس!" تحديداً، تتناول فصولاً مخزية من تاريخ الشرطة الفرنسية وعمليات القمع التي تُسجَّل عليها، منذ عملية "فيل ديف" المشؤومة خلال الحرب العالمية الثانية، حتى السلوكيات اليومية العنيفة في ضواحي باريس تجاه الفرنسيين من أصول عربية وأفريقية، مروراً بوقائع كثيرة مختلفة، لعل أخطرها القمع الدموي لتظاهرة 17 تشرين الأول/ أكتوبر 1961 الشهيرة التي نظّمها الجزائريون في باريس ضد قانون حظر التجول الذي فُرض على أبناء شمال أفريقيا حصراً.

عمليات تحوّلت وثائقها مع شيامبريتو إلى عناصر نصّية تم تنضيدها بطريقةٍ تشكّل نقطة استفهامٍ شعرية صادمة حول تجاوزات الشرطة و"الأمن" ليس فقط في فرنسا، وإنما في مختلف أنحاء العالم.

وضمن أسلوب ونبرة عروضه السابقة، التي لا تتردد في استحضار معيش لاجئين أو أشخاصٍ تعرّضوا للتعذيب، يمنح أورمدان لنص شيامبريتو شكل مدوّنة سمعية يجسّدها على خشبة المسرح فيضٌ من الأجساد المتحرّكة، الراقصة.

كوريغرافيا ذات طابع عام، توقّعها أوامر صارخة، ويتسلّط عليها بشكلٍ ثابت شبح الفوضى الجماعية. عملية إخراجٍ مسرحي إذاً للنص، أو بالأحرى إخراج صوتي، تقوم بشكلٍ رئيسي على مهارات عشرة راقصين محترفين وعدد كبير من الهواة، نجح أورمدان من خلالهم في إسقاط نص "بوليس!" على الخشبة بجميع دلالاته ومميزاته، أي كمزيج من المواد الفجّة والخيالية، في خدمة قصيدة متعددة الأصوات وملتزمة.

عرضٌ نشاهده كعملية تحليل نفسي جماعي يغوص بجرأة وبصيرة في مفاهيم مختلفة، كالنظام والعدالة والتعسّف، كما يتمثّلها الأطفال والمراهقون. يقدّم العمل، بفنّية عالية، سينوغرافيا منيرة وموجِّهة تتخلّلها حبكة من المسيرات الجماعية والاستعراضات، على خلفية تجهيز صوتي يتجاوب مع كلمات الأناشيد التي تؤدّيها جوقة الأطفال التي استعان أورمدان بها. بينما يساهم تجهيز فيديو مبتكَر في تحديد سلّم التيه والمآسي الذي يشكّل نواة العمل وهيكله معاً.

نشير أخيراً إلى أن أورمدان، في هذا العرض، كما في جميع عروضه السابقة، يواصل تأملاته حول الهوية، وحول مسارات فردية تنير مسارات جماعية. ولأن عمله يرتكز على تجميعٍ دقيق لشهادات، يتعاون منذ البداية مع مؤلفي أفلام وثائقية وكتّاب، مستعيناً بتجهيزات صوتية وبصرية لاستكشاف دائرة الحميمي، كما يتعاون في بحثه الكوريغرافي مع مصوّرين وموسيقيين وتشكيليين، علماً أن تعاونه في كل مرة مع فنانٍ ما يشكّل لقاءً فريداً وعنصراً محدداً للعرض الذي يعملان معاً عليه، كما هو الحال في هذا العرض، إذ كان تعاونه مع الموسيقي الفرنسي جان باتيست جوليان.

المساهمون