من هذه الأصوات، رسالة كتبها المعارض السعودي، طالب جواد حسين العبد المحسن، لـ"العربي الجديد"، يشرح فيها الاضطهاد السياسي والاختفاء القسري في مملكة "الخوف"، كما وصفها أحد المعارضين، الذين فرّوا من حملة الاعتقالات الجارية في السعودية.
والعبد المحسن خرّيج كلية الطب من جامعة الملك سعود بالرياض، وعلى الرغم من ولادته في السعودية عام 1974 في الأحساء، اُضطر إلى طلب اللجوء السياسي في ألمانيا، حيث تخصّص في الطب النفسي.
في رسالته، يروي العبد المحسن ما تعرّض له في المملكة، في تجربة تختصر ربما قصص آخرين، بعضهم سار على خطى كاتب الرسالة في طلب اللجوء خارج السعودية، والبعض الآخر ربما لا يزال يعاني، وينتظر الفرصة كي يتنفس الحرية، بعيداً عن اضطهاد مملكة الخوف.
ينشر "العربي الجديد" نصّ الرسالة كما وردت منه حرفياً:
"أنا سعودي الجنسية. ولدتُ لعائلة سعودية لها تاريخ عريق في السعودية. ونشأتُ في السعودية، تحديداً في قرية القارة بالأحساء، التي قضيت فيها معظم حياتي. ومنذ الصغر تشبّعت ذاكرتي بمشاهد الاضطهاد الذي يعاني منه سكان قريتي بسبب تضييق الحكومة السعودية على حرية العبادة، وأيضاً بسبب التفرقة على أسس دينية مهما كان المواطن موالياً لوطنه.
تعوّدت على سماع قصص الاعتقالات التعسفية ومداهمات منتصف الليل، حيث يقوم رجال المباحث بتكسير الأبواب واقتحام غرف النوم، بدون مراعاة لحرمة البيوت. كانت أجواء الطفولة كلها مشوبة بالحذر. فأيّ كلمة انتقاد للحكومة، أو حتى مجرّد التصريح بمذهبك الإسلامي الذي تنتمي إليه، يمكن أن يقودك إلى السجن والتعرّض للتعذيب. كنا نسمع عن قصص تعذيب مروعة تحدث في السجون السعودية للمعارضين الذين تم اعتقالهم. لم يكن هناك شيء اسمه حقوق عندما يتعلّق الأمر بالسياسة. وأظن أنّ هذا الوضع زرع ثائراً صامتاً في قلب كل مواطن سعودي. بدأ صوتي يعلو منذ عشرين سنة تقريباً. حاولت اقتلاع جذور الطغيان السياسي، لكن النتائج كانت بطيئة والصبر ينفذ. ثم عندما كنت في ألمانيا عام 2012 بدأت الكتابة باسم مستعار في الإنترنت عن الوضع الحقوقي في السعودية. والحروف تجر الحروف، فكل موضوع يستدرجني لكتابة موضوع آخر. وبينما كنت أكتب كان مشهد حقوق الإنسان في السعودية يتدهور. لذلك قررت في 2016 أنّه قد حان الوقت للحديث علناً عن الانتهاكات التي تمارسها الحكومة السعودية ضد شعبها. وتقدّمتُ بطلب اللجوء في ألمانيا وأتبعتُ طلبي بتدشين مشروعي النقدي على "تويتر". ولأنّني تفاجأت بالعدد الهائل من السعوديين الراغبين باللجوء يستفسرون مني عن شروط اللجوء وآلياته، وجدت نفسي أخصّص الجزء الأكبر من مشروعي لهذه الفئة. وقد نجحت في مساعدة الكثير من السعوديين بشكل مباشر على طلب اللجوء في بلدان متعددة مثل ألمانيا وبريطانيا وكندا وأستراليا ونيوزلندا وسويسرا والنرويج وفرنسا. كذلك ساعدت آخرين بشكل غير مباشر حيث قرأوا سلسلة تغريداتي عن موضوع اللجوء واستفادوا منها وتقدّموا بطلب اللجوء دون علمي.
مثلاً، يوم أمس تواصلت معي فتاة سعودية، وأخبرتني أنّها بعد أن قرأت تغريداتي تقدّمت بطلب اللجوء في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي دون علمي. وعندما أخبرتني عن التاريخ، تذكرتُ أنّ أربع فتيات سعوديات غيرها تقدّمن بطلب اللجوء في نفس الأسبوع، في نفس البلد، بمساعدة مباشرة مني. وهي أكدت لي صحة كلامي لأنّها التقت بالفتيات الأربع في الملجأ. فهناك عدد كبير من السعوديين الهاربين من القمع، والعدد يزداد يومياً، لدرجة أنّني عندما أخبرتُ الصحافية الأميركية أنّني قدّمت المشورة بخصوص اللجوء لمئات الفتيات السعوديات المضطهدات بدا أنّها استكثرت هذا الرقم، حيث ظهر عندنا المقال في جريدة "لوس أنجليس تايمز"، وجدتُ أنّها استبدلت كلمة "مئات" بكلمة "كثير". والحقيقة أنني ساعدت حتى الآن أكثر من 1000 فتاة سعودية بشكل مباشر، وأضعاف هذا الرقم بشكل غير مباشر. ويكفي أن تعلم أنّ أغلب الفتيات السعوديات المضطهدات يصفن السعودية بأنّها "قبر"، وأّن الخروج منها هو الولادة الحقيقية، فهؤلاء يمتن كل يوم بسبب القمع الذي تمارسه الحكومة السعودية، سواء عبر التشريعات الظالمة أو عبر تعذيب وإهانة من تلجأ منهن للشرطة أو القضاء للمطالبة بحقوقها، ومن البديهي أنّ الاضطهاد السياسي كلما ازداد بشاعة زاد عدد المكتوين بناره.
ولأنّني عجزت عن مواكبة الزيادة الهائلة في عدد الراغبين في اللجوء، اضطررتُ لافتتاح منتدى "حركة الحقوق السعودية"، لنشر المواضيع حيث يمكن للجميع الاطلاع على المعلومة دون الرجوع إلي أو الحاجة لي. فنحن نتعامل مع حكومة تدفع عدداً كبيراً من مواطنيها للمغادرة بحثاً عن حياة كريمة.
ولاحظتُ أنّه كلما ازدادت شعبية المنتدى كلما زاد عدد اللاجئين، ما يعني أنّ ما يوقف السعوديين عن اللجوء ليس استساغتهم للجحيم الذي أدخلهم فيه آل سعود، بل فقط لأنّهم لا يدرون عن شروط اللجوء وإجراءاته. فلو قمنا بتثقيف الشعب السعودي بحقّه في اللجوء، لرأينا مئات الآلاف منهم يتدفقون على الدول المعروفة باستقبال اللاجئين.
ومن خلال متابعتي لأوضاع الكثير من اللاجئين، وجدت أنّ السفارات السعودية في الخارج تطارد اللاجئات وتحاول استدراجهن للعودة إلى السعودية بوعود زائفة، حيث يمكن بعد عودة اللاجئة إلى السعودية، أن يتم اعتقالها كما حدث مع عائشة المرزوق التي نُشرتْ قصتها، قبل أيام، أثناء احتجازها في مطار الملك خالد الدولي بالرياض، عقب عودتها من السويد، بعد أن خدعها السفير السعودي في السويد قائلاً إنّ عودتها لا تشكّل خطراً عليها.
لكن أغلب اللاجئات لديهن من الفطنة ما تمكنهن من تجنب الوقوع في هذا الفخ. ونلاحظ في منهج السفارات السعودية أنّها تستعمل الكلام المعسول عندما تتواصل مع لاجئة في بلد معروف باحترام حقوق الإنسان، أما في البلدان الفاسدة كالفيليبين، فيتم تقديم الرشاوى للموظفين وحتى المحامين، لكي يتم قمع اللاجئة بأقسى الوسائل، كما رأينا مع قصة دينا علي التي كنتُ أتابعها لحظة بلحظة، وكنتُ أول من نشر أنّها قد تم اختطافها من المطار بعد تقييد يديها وساقيها وتكميم فمها بشريط لاصق وتكويم جسدها في شرشف بطريقة وحشية.
إنّ الصورة قاتمة بلا شك، وهذا لا يزيدنا إلا عزماً على فضح جرائم النظام السعودي والمطالبة بإدانته دولياً".
طالب جواد حسين العبد المحسن